للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ مُكِّنَ مِنْ بَيْعِ مُدِّ حِنْطَةٍ بِمَدَّيْنِ كَانَ ذَلِكَ تِجَارَةً حَاضِرَةً، فَتَطْلُبُ النُّفُوسُ التِّجَارَةَ الْمُؤَخَّرَةَ لِلَذَّةِ الْكَسْبِ وَحَلَاوَتِهِ؛ فَمُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مُنِعُوا مِنْ التَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ إتْمَامًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، وَرِعَايَةً لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَدْ يَتَعَاقَدَانِ عَلَى الْحُلُولِ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِصَبْرِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَكَمَا يَفْعَلُ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: يُطْلِقُونَ الْعَقْدَ وَقَدْ تَوَاطَئُوا عَلَى أَمْرٍ آخَرَ، كَمَا يُطْلِقُونَ عَقْدَ النِّكَاحِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى التَّحْلِيلِ، وَيُطْلِقُونَ بَيْعَ السِّلْعَةِ إلَى أَجَلٍ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُعِيدُهَا إلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ الثَّمَنِ؛ فَلَوْ جُوِّزَ لَهُمْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَأَطْلَقُوا الْبَيْعَ حَالًّا وَأَخَّرُوا الطَّلَبَ لِأَجْلِ الرِّبْحِ، فَيَقَعُوا فِي نَفْسِ الْمَحْذُورِ.

وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَثْمَانِ بِجِنْسِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الْأَثْمَانِ، وَمُنِعُوا مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَقْوَاتِ بِجِنْسِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الْأَقْوَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي بَيْعِ التِّبْرِ وَالْعَيْنِ؛ لِأَنَّ التِّبْرَ لَيْسَ فِيهِ صَنْعَةٌ يُقْصَدُ لِأَجْلِهَا؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ أَلَّا يُفَاضِلَ بَيْنَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: " تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا سَوَاءٌ " فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا النَّسَاءِ فِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسَيْنِ، وَرِبَا الْفَضْلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ هَذَا تَحْرِيمُ الْمَقَاصِدِ وَتَحْرِيمَ الْآخَرِ تَحْرِيمُ الْوَسَائِلِ وَسَدُّ الذَّرَائِعِ، وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ شَيْءٌ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ.

[فَصَلِّ حِكْمَةُ إبَاحَةِ الْعَرَايَا وَنَحْوِهَا]

فَصْلٌ:

[حِكْمَةُ إبَاحَةِ الْعَرَايَا وَنَحْوِهَا]

وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ كَالْعَرَايَا؛ فَإِنَّ مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أَخَفُّ مِمَّا حَرَّمَ تَحْرِيمَ الْمَقَاصِدِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَصُوغُ وَالْحِيلَةُ إنْ كَانَتْ صِيَاغَتُهُ مُحَرَّمَةً كَالْآنِيَةِ حُرِّمَ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ، وَبَيْعُ هَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ عُبَادَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُقَابَلَةَ الصِّيَاغَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْأَثْمَانِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَآلَاتِ الْمَلَاهِي. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الصِّيَاغَةُ مُبَاحَةً - كَخَاتَمِ الْفِضَّةِ وَحِلْيَةِ النِّسَاءِ وَمَا أُبِيحَ مِنْ حِلْيَةِ السِّلَاحِ وَغَيْرِهَا - فَالْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ هَذِهِ بِوَزْنِهَا مِنْ جِنْسِهَا فَإِنَّهُ سَفَهٌ وَإِضَاعَةٌ لِلصَّنْعَةِ. وَالشَّارِعُ أَحْكَمُ مِنْ أَنْ يُلْزِمَ الْأُمَّةَ بِذَلِكَ، فَالشَّرِيعَةُ لَا تَأْتِي بِهِ، وَلَا تَأْتِي بِالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ ذَلِكَ وَشِرَائِهِ

لِحَاجَةِ

النَّاسِ إلَيْهِ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا أَلْبَتَّةَ، بَلْ يَبِيعُهَا بِجِنْسٍ آخَرَ، وَفِي هَذَا مِنْ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ مَا تَتَّقِيهِ الشَّرِيعَةُ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ذَهَبٌ يَشْتَرُونَ بِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْبَائِعُ لَا يَسْمَحُ بِبَيْعِهِ بِبُرٍّ وَشَعِيرٍ وَثِيَابٍ؛ وَتَكْلِيفُ الِاسْتِصْنَاعِ لِكُلِّ مَنْ احْتَاجَ

<<  <  ج: ص:  >  >>