للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُتَضَادَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِآثَارِهَا اقْتِضَاءَ السَّبَبِ لِمُسَبِّبِهِ وَاَلَّتِي فِي الْخَارِجِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تَطْلُبُ النُّفُوسُ حُصُولَهَا فَتُنَافِسُ فِيهِ، وَتَكْرَهُ حُصُولَهُ فَتَدْفَعُهُ عَنْهَا، ثُمَّ أَكَّدَ أَسْبَابَ هَذَا الِابْتِلَاءِ بِأَنْ وَكَّلَ بِهَا قُرَنَاءَ مِنْ الْأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ الظَّالِمَةِ الْخَبِيثَةِ وَقُرَنَاءَ مِنْ الْأَرْوَاحِ الْخَيِّرَةِ الْعَادِلَةِ الطَّيِّبَةِ، وَجَعَلَ دَوَاعِيَ الْقَلْبِ وَمُيُولَهُ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَهُمَا؛ فَهُوَ إلَى دَاعِي الْخَيْرِ مَرَّةً وَإِلَى دَاعِي الشَّرِّ مَرَّةً، لِيَتِمَّ الِابْتِلَاءُ فِي دَارِ الِامْتِحَانِ، وَتَظْهَرَ حِكْمَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ الْحَقِّ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ، وَهُمَا مُقْتَضَى مُلْكِ الرَّبِّ وَحَمْدِهِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مُلْكُهُ وَحَمْدُهُ فِيهِمَا كَمَا ظَهَرَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ بِحُكْمِ إيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ لِيُتِمَّ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَأَقَامَ سُوقَ الْجِهَادِ لِمَا حَصَلَ مِنْ الْمُعَادَاةِ وَالْمُنَافَرَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْإِرَادَاتِ كَمَا حَصَلَ بَيْنَ مَنْ قَامَتْ بِهِ.

فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حُصُولِ مُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا قَارَنَهَا مِنْ الْأَسْبَابِ مِنْ التَّنَافُسِ وَالتَّحَاسُدِ وَالِانْقِيَادِ لِدَوَاعِي الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَتَعَدِّي مَا حُدَّ لَهُ وَالتَّقْصِيرُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تُعُبِّدَ بِهِ، وَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَيْهَا اغْتِرَارُهَا بِمَوَارِدِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ مِنْ مَصَادِرِهَا، وَإِيثَارِهَا مَا تَتَعَجَّلُهُ مِنْ يَسِيرِ اللَّذَّةِ فِي دُنْيَاهَا عَلَى مَا تَتَأَجَّلُهُ مِنْ عَظِيمِ اللَّذَّةِ فِي أُخْرَاهَا، وَنُزُولِهَا عَلَى الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ، وَتَجَافِيهَا عَنْ الْغَائِبِ الْمَوْعُودِ وَذَلِكَ مُوجِبُ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ جَهْلِهَا وَظُلْمِهَا؛ فَاقْتَضَتْ أَسْمَاءُ الرَّبِّ الْحُسْنَى وَصِفَاتُهُ الْعُلْيَا وَحِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ وَنِعْمَتُهُ السَّابِغَةُ وَرَحْمَتُهُ الشَّامِلَةُ وَجُودُهُ الْوَاسِعُ أَنْ لَا يَضْرِبَ عَنْ عِبَادِهِ الذِّكْرَ صَفْحًا، وَأَنْ لَا يَتْرُكَهُمْ سُدًى، وَلَا يُخَلِّيَهُمْ وَدَوَاعِيَ أَنْفُسِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ، بَلْ رَكَّبَ فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ مَعْرِفَةَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ وَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ وَمَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا، وَلَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى عَرَّفَهُمْ بِهِ مُفَصَّلًا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَقَطَعَ مَعَاذِيرَهُمْ بِأَنْ أَقَامَ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ لَهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَصَرَفَ لَهُمْ طُرُقَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَضَرَبَ لَهُمْ الْأَمْثَالَ وَأَزَالَ عَنْهُمْ كُلَّ إشْكَالٍ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ غَايَةَ التَّمْكِينِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهِ بِكُلِّ سَبَبٍ، وَسَلَّطَهُمْ عَلَى قَهْرِ طِبَاعِهِمْ بِمَا يَجُرُّهُمْ إلَى إيثَارِ الْعَوَاقِبِ عَلَى الْمُبَادِي وَرَفْضِ الْيَسِيرِ الْفَانِي مِنْ اللَّذَّةِ إلَى الْعَظِيمِ الْبَاقِي مِنْهَا، وَأَرْشَدَهُمْ إلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ وَإِيثَارِ مَا تَقْضِي بِهِ عُقُولُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَأَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ بِمَا أَوْصَلَهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْعُقُوبَةِ وَالْمَثُوبَةِ وَالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَتَحْقِيقِ ذَلِكَ بِالتَّعْجِيلِ لِبَعْضِهِ فِي دَارِ الْمِحْنَةِ لِيَكُونَ عَلَمًا وَإِمَارَةً لِتَحْقِيقِ مَا أَخَّرَهُ عَنْهُمْ فِي دَارِ الْجَزَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>