للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ رِعَايَةٌ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ، وَتَكْمِيلٌ لَهَا، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: ٤٩] فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ الْمَسِيسِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: ٢٢٨] فَجَعَلَ الزَّوْجَ أَحَقَّ بِرَدِّهَا فِي الْعِدَّةِ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْعِدَّةُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ أَوْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ طَالَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهَا هَلْ يُمْسِكُهَا بِمَعْرُوفٍ أَوْ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانٍ، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُولِي تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ هَلْ يَفِيءُ أَوْ يُطَلِّقُ، وَكَمَا جَعَلَ مُدَّةَ تَسْيِيرِ الْكُفَّارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ وَيَخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْعِلَّةُ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ الْمُخْتَلِعَةَ وَالْمَفْسُوخَ نِكَاحُهَا بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَالْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ وَالْمَزْنِيَّ بِهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَلَا رَجْعَةَ هُنَاكَ، فَقَدْ وُجِدَ الْحُكْمُ بِدُونِ عِلَّتِهِ، وَهَذَا يُبْطِلُ كَوْنَهَا عِلَّةً.

[عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ]

قِيلَ: شَرْطُ النَّقْضِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي صُورَةٍ ثَابِتًا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ قَوْلًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَكْفِي فِي النَّقْضِ بِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ؛ فَذَهَبَ إِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ دَلِيلًا أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ حَكَى إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَلَا يُعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفٌ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيحَةُ دَلَالَةً صَرِيحَةً، وَعُذْرُ مَنْ خَالَفَهَا أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْهُ، أَوْ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُ، أَوْ ظَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ مُوجِبِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ: أَمَّا رُجْحَانُهُ أَثَرًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ الْمُخْتَلِعَةَ قَطُّ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، بَلْ قَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْهُ مِنْ «حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ ضَرَبَ امْرَأَةً فَكَسَرَ يَدَهَا، وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَأَتَى أَخُوهَا يَشْتَكِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى ثَابِتٍ، فَقَالَ: خُذْ الَّذِي لَهَا عَلَيْك وَخَلِّ سَبِيلَهَا قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا» ؛ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَهَا طُرُقٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأُعِلَّ الْحَدِيثُ بِعِلَّتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إرْسَالُهُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الصَّحِيحَ فِيهِ " أُمِرَتْ " بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، وَالْعِلَّتَانِ غَيْرُ مُؤَثِّرَتَيْنِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَّصِلَةٍ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>