للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أُمِرَتْ وَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إذْ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ لَهَا بِذَلِكَ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ وَلَفْظٍ صَرِيحٍ يُفَسِّرُ الْمُحْتَمَلَ وَيُبَيِّنُهُ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمُحْتَمَلُ مُعَارِضًا لِلْمُفَسِّرِ بَلْ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ؟ ثُمَّ يَكْفِي فِي ذَلِكَ فَتَاوَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: هُوَ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.

وَأَمَّا اقْتِضَاءُ النَّظَرِ لَهُ فَإِنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَمْ تَبْقَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا عِدَّةٌ، وَقَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أَحَقَّ بِبُضْعِهَا، فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا، فَصَارَتْ الْعِدَّةُ فِي حَقِّهَا بِمُجَرَّدِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ فِي هَذَا النَّوْعِ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ فِي الْمَسْبِيَّةِ وَالْمَمْلُوكَةِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ أَوْ تَبَرُّعٍ وَالْمُهَاجِرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا جَاءَتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الرَّجْعِيَّةِ، وَالْمُخْتَلِعَةُ فَرْعٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ؛ فَيَنْبَغِي إلْحَاقُهَا بِأَشْبَهِهِمَا بِهَا؛ فَنَظَرْنَا فَإِذَا هِيَ بِذَوَاتِ الْحَيْضَةِ أَشْبَهُ.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ حِكْمَةَ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ قَسَّمَ النِّسَاءَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْمُفَارَقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا رَجْعَةَ لِزَوْجِهَا فِيهَا.

الثَّانِي: الْمُفَارَقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ إذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ إلَّا فِي هَذَا الْقِسْمِ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: ٢٢٨] وَكَذَا فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ لَمَّا ذَكَرَ الِاعْتِدَادَ بِالْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ فِي حَقِّ مَنْ إذَا بَلَغَتْ أَجَلَهَا خُيِّرَ زَوْجُهَا بَيْنَ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ مُفَارَقَتِهَا بِإِحْسَانٍ، وَهِيَ الرَّجْعِيَّةُ قَطْعًا، فَلَمْ يَذْكُرْ الْأَقْرَاءَ أَوْ بَدَلَهَا فِي حَقِّ بَائِنٍ أَلْبَتَّةَ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ بَانَتْ عَنْ زَوْجِهَا وَانْقَطَعَ حَقُّهُ عَنْهَا بِسَبْيٍ أَوْ هِجْرَةٍ أَوْ خُلْعٍ؛ فَجَعَلَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً لِلِاسْتِبْرَاءِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا ثَلَاثًا؛ إذْ لَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالْمُنَاسَبَةِ؛ وَأَمَّا الزَّانِيَةُ وَالْمَوْطُوءَةُ، بِشُبْهَةٍ فَمُوجِبُ الدَّلِيلِ أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ فَقَطْ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الزَّانِيَةِ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا فِي الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَقِيَاسُهُمَا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ مِنْ أَبْعَدِ الْقِيَاسِ وَأَفْسَدِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ هَذَا قَدْ سَلِمَ لَكُمْ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الصُّوَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْلَمُ مَعَكُمْ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى اعْتِدَادِهَا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ مَعَ انْقِطَاعِ حَقِّ زَوْجِهَا مِنْ الرَّجْعَةِ، وَالْقَصْدُ مُجَرَّدُ اسْتِبْرَاءِ رَحِمِهَا. [حِكْمَةُ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا]

قِيلَ: نَعَمْ هَذَا سُؤَالٌ وَارِدٌ، وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي عِدَّتِهَا:

<<  <  ج: ص:  >  >>