وَكَانَتْ حَاجَتُهُ تَدْعُوهُ إلَيْهِ، أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا هُوَ عِوَضٌ لَهُ مِنْهُ، فَيَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ الْمَحْظُورِ، وَيَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْمُبَاحِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِنْ عَالِمٍ نَاصِحٍ مُشْفِقٍ قَدْ تَاجَرَ اللَّهَ وَعَامَلَهُ بِعِلْمِهِ.
فَمِثَالُهُ فِي الْعُلَمَاءِ مِثَالُ الطَّبِيبِ الْعَالِمِ النَّاصِحِ فِي الْأَطِبَّاءِ يَحْمِي الْعَلِيلَ عَمَّا يَضُرُّهُ، وَيَصِفُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ، فَهَذَا شَأْنُ أَطِبَّاءِ الْأَدْيَانِ وَالْأَبْدَانِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» .
وَهَذَا شَأْنُ خُلُقِ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَرَأَيْت شَيْخَنَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَتَحَرَّى ذَلِكَ فِي فَتَاوِيهِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فَتَاوِيَهُ وَجَدَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِيهَا، «وَقَدْ مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا أَنْ يَشْتَرِيَ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ الْجَيِّدِ بِصَاعَيْنِ مِنْ الرَّدِيءِ، ثُمَّ دَلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُبَاحِ، فَقَالَ بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» فَمَنَعَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْمُحَرَّمِ، وَأَرْشَدَهُ إلَى الطَّرِيقِ الْمُبَاحِ.
وَلَمَّا سَأَلَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا فِي جِبَايَةِ الزَّكَاةِ؛ لِيُصِيبَا مَا يَتَزَوَّجَانِ بِهِ مَنَعَهُمَا مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ مَحْمِيَةَ بْنَ جزو - وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ - أَنْ يُعْطِيَهُمَا مَا يَنْكِحَانِ بِهِ، فَمَنَعَهُمَا مِنْ الطَّرِيقِ الْمُحَرَّمِ، وَفَتَحَ لَهُمْ الطَّرِيقَ الْمُبَاحَ، وَهَذَا اقْتِدَاءٌ مِنْهُ بِرَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ يَسْأَلُهُ عَبْدُهُ الْحَاجَةَ فَيَمْنَعُهُ إيَّاهَا، وَيُعْطِيهِ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ وَأَنْفَعُ مِنْهَا، وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ وَالْحِكْمَةِ.
[يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُنَبِّهَ السَّائِلَ إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُوهِمِ] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ:
إذَا أَفْتَى الْمُفْتِي لِلسَّائِلِ بِشَيْءٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَبِّهَهُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِرَازِ مِمَّا قَدْ يَذْهَبُ إلَيْهِ الْوَهْمُ مِنْهُ مِنْ خِلَافِ الصَّوَابِ، وَهَذَا بَابٌ لَطِيفٌ مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ وَالنُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ.
وَمِثَالُ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَتْبَعَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ؛ رَفْعًا لِتَوَهُّمِ إهْدَارِ دِمَاءِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانُوا فِي عَهْدِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» فَرُبَّمَا ذَهَبَ الْوَهْمُ إلَى أَنَّ دِمَاءَهُمْ هَدَرٌ، وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ أَحَدَهُمْ مُسْلِمٌ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، فَرَفَعَ هَذَا التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَلَقَدْ خَفِيَتْ هَذِهِ اللَّطِيفَةُ الْحَسَنَةُ عَلَى مَنْ قَالَ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ، وَقَدَّرَ فِي الْحَدِيثِ: وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا» فَلَمَّا كَانَ نَهْيُهُ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَيْهَا نَوْعَ تَعْظِيمٍ لَهَا عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهَا حَتَّى تُجْعَلَ قِبْلَةً.
وَهَذَا بِعَيْنِهِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنِسَاءِ نَبِيِّهِ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: ٣٢] فَنَهَاهُنَّ عَنْ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ، فَرُبَّمَا ذَهَبَ الْوَهْمُ إلَى الْإِذْنِ فِي الْإِغْلَاظِ فِي الْقَوْلِ وَالتَّجَاوُزِ، فَرَفَعَ هَذَا التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ: {وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: ٣٢] وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute