الْعَذَابِ، ثُمَّ قِيلَ: الْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَعَنَهُمْ وَعَذَّبَهُمْ كَمَا لَعَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ، وَقِيلَ: بَلْ الْعَامِلُ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ وَعْدُ اللَّهِ الْمُنَافِقِينَ كَوَعْدِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَلَعْنُهُمْ كَلَعْنِهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ كَالْعَذَابِ الَّذِي لَهُمْ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْحَقَهُمْ بِهِمْ فِي الْوَعِيدِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِيهِ كَمَا تُسَاوَوْا فِي الْأَعْمَالِ، وَكَوْنُهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَرْقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْوَصْفِ الْجَامِعِ الْمُؤَثِّرِ، وَأَلْغَى الْوَصْفَ الْفَارِقَ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ اقْتَضَتْ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْجَزَاءِ فَقَالَ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: ٦٩] فَهَذِهِ هِيَ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ وَالْوَصْفُ الْجَامِعُ، وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [التوبة: ٦٩] هُوَ الْحُكْمُ، وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ هُمْ الْأَصْلُ، وَالْمُخَاطَبُونَ الْفَرْعُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} [التوبة: ٦٩] قَالَ: بِذَنْبِهِمْ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَمْتَعُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنْ الْآخِرَةِ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ آخَرُونَ: بِنَصِيبِهِمْ مِنْ الدُّنْيَا.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْخَلَاقَ هُوَ النَّصِيبُ وَالْحَظُّ، كَأَنَّهُ الَّذِي خُلِقَ لِلْإِنْسَانِ وَقُدِّرَ لَهُ، كَمَا يُقَالُ قَسْمُهُ الَّذِي قُسِمَ لَهُ، وَنَصِيبُهُ الَّذِي نُصِبَ لَهُ أَيْ أُثْبِتَ، وَقِطُّهُ الَّذِي قُطَّ لَهُ أَيْ قُطِعَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: ٢٠٠] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرُ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ مَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ كُلَّهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} [التوبة: ٦٩] فَبِتِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَعْمَلُوا لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ، وَتِلْكَ الْقُوَّةُ وَالْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ هِيَ الْخَلَاقُ، فَاسْتَمْتَعُوا بِقُوَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَنَفْسُ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلُوهَا بِهَذِهِ الْقُوَّةِ مِنْ الْخَلَاقِ الَّذِي اسْتَمْتَعُوا بِهِ، وَلَوْ أَرَادُوا بِذَلِكَ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ لَكَانَ لَهُمْ خَلَاقٌ فِي الْآخِرَةِ، فَتَمَتُّعُهُمْ بِهَا أَخْذُ حُظُوظِهِمْ الْعَاجِلَةِ، وَهَذَا حَالُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ إلَّا لِدُنْيَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ عَمَلُهُ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ أَوْ غَيْرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْفُرُوعِ فَقَالَ: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} [التوبة: ٦٩] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَأَنَّهُ يَنَالُهُمْ مَا نَالَهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: ٦٩] فَقِيلَ: الَّذِي صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute