للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَّخِذِينَ السُّرُجَ عَلَى الْقُبُورِ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُلْزِمَ أَوْ يُسَوِّغَ فِعْلَ مَا لَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعِلَهُ؟ وَحَضَرْتُ بَعْضَ قُضَاةِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَقَدْ جَاءَهُ كِتَابٌ وُقِفَ عَلَى تُرْبَةٍ؛ لِيُثْبِتَهُ، وَفِيهِ: " وَأَنَّهُ يُوقَدُ عَلَى الْقَبْرِ كُلَّ لَيْلَةٍ قِنْدِيلٌ " فَقُلْت لَهُ: كَيْفَ يَحِلُّ لَك أَنْ تُثْبِتَ هَذَا الْكِتَابَ وَتَحْكُمَ بِصِحَّتِهِ مَعَ عِلْمِك بِلَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُتَّخِذِينَ السُّرُجَ عَلَى الْقُبُورِ؟ فَأَمْسَكَ عَنْ إثْبَاتِهِ وَقَالَ: الْأَمْرُ كَمَا قُلْت، أَوْ كَمَا قَالَ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ قَبْرِهِ دُونَ الْبُيُوتِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وَالنَّاسُ لَهُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَوْ بَعِيدًا مِنْهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَصِلُ وَوُصُولُهَا فَرْعُ حُصُولِ الصَّوَابِ لِلْقَارِئِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْمَيِّتِ، فَإِذَا كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقَارِئِ وَمَجِيئُهُ إلَى الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْجُعْلِ [وَ] لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ثَوَابٌ، فَكَيْفَ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى الْمَيِّتِ وَهُوَ فَرْعُهُ؟ فَمَا زَادَ بِمَجِيئِهِ إلَى التُّرْبَةِ إلَّا الْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ لِلَّهِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ فِي مَكَان يَكُونُ أَسْهَلَ عَلَيْهِ وَأَعْظَمَ لِإِخْلَاصِهِ ثُمَّ جَعَلَ ثَوَابَ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ وَصَلَ إلَيْهِ.

وَذَاكَرْت مَرَّةً بِهَذَا الْمَعْنَى بَعْضَ الْفُضَلَاءِ، فَاعْتَرَفَ بِهِ، وَقَالَ: لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاقِفَ قَدْ يَكُونُ قَصَدَ انْتِفَاعَهُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ عَلَى قَبْرِهِ، وَوُصُولِ بَرَكَةِ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَقُلْت لَهُ: انْتِفَاعُهُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مَشْرُوطٌ بِحَيَاتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ كُلُّهُ.

وَاسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا لَكَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَوْلَى بِهَذَا الْحَظِّ الْعَظِيمِ؛ لِمُسَارَعَتِهِمْ إلَى الْخَيْرِ وَحِرْصِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إلَيْهِ فَاَلَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ حُضُورُ التُّرْبَةِ، وَلَا تَتَعَيَّنُ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ.

وَنَظِيرُ هَذَا مَا لَوْ وَقَفَ وَقْفًا يَتَصَدَّقُ بِهِ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ؛ فَإِنْ فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْنِيَةِ الْفَقِيرِ وَإِتْعَابِهِ وَإِزْعَاجِهِ مِنْ مَوْضِعِهِ إلَى الْجَبَّانَةِ فِي حَالِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالضَّعْفِ حَتَّى يَأْخُذَ تِلْكَ الصَّدَقَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ مِمَّا لَعَلَّهُ أَنْ يُحْبِطَ أَجْرَهَا، وَيَمْنَعَ انْعِقَادَهُ بِالْكُلِّيَّةِ.

وَمِنْ هَذَا لَوْ شَرَطَ وَاقِفُ الْخَانْقَاهْ وَغَيْرِهَا عَلَى أَهْلِهَا أَنْ لَا يَشْتَغِلُوا بِكِتَابَةِ الْعِلْمِ وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْفِقْهِ؛ فَإِنَّ هَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ مُضَادٌّ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، لَا يَحِلُّ تَنْفِيذُهُ وَلَا الْتِزَامُهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ مَنْ قَامَ بِهِ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْوَقْفِ؛ فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الْوَقْفَ

<<  <  ج: ص:  >  >>