للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: ١٩] فَدَلَّ بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، وَقَرَّبَ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ جِدًّا بِلَفْظِ الْإِخْرَاجِ، أَيْ يَخْرُجُونَ مِنْ الْأَرْضِ أَحْيَاءً كَمَا يَخْرُجُ الْحَيُّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيَخْرُجُ الْمَيِّتُ مِنْ الْحَيِّ.

وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: ٣٦] {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: ٣٧] {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: ٣٨] {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [القيامة: ٣٩] {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: ٤٠] .

فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ الْخَلْقِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَاءِ فِي الرَّحِمِ إلَى أَنْ صَارَ مِنْهُ الزَّوْجَانِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَذَلِكَ أَمَارَةُ وُجُودِ صَانِعٍ قَادِرٍ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ: عِبَادَهُ بِمَا أَحْدَثَهُ فِي النُّطْفَةِ الْمُهِينَةِ الْحَقِيرَةِ مِنْ الْأَطْوَارِ، وَسَوْقُهَا فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ مِنْ مَرْتَبَةٍ إلَى مَرْتَبَةٍ أَعْلَى مِنْهَا، حَتَّى صَارَتْ بَشَرًا سَوِيًّا فِي أَحْسَنِ خَلْقٍ وَتَقْوِيمٍ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ هَذَا الْبَشَرَ سُدًى مُهْمَلًا مُعَطَّلًا لَا يَأْمُرُهُ وَلَا يَنْهَاهُ وَلَا يُقِيمُهُ فِي عُبُودِيَّتِهِ، وَقَدْ سَاقَهُ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ مِنْ حِينِ كَانَ نُطْفَةً إلَى أَنْ صَارَ بَشَرًا سَوِيًّا، فَكَذَلِكَ يَسُوقُهُ فِي مَرَاتِبِ كَمَالِهِ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ إلَى أَنْ يَصِيرَ جَارَهُ فِي دَارِهِ يَتَمَتَّعُ بِأَنْوَاعِ النَّعِيمِ، وَيَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ، وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: ٥٧] {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: ٥٨] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُمَا إحْيَاءَانِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا مُعْتَبَرٌ بِالْآخَرِ مَقِيسٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ قِيَاسًا آخَرَ أَنَّ مِنْ الْأَرْضِ مَا يَكُونُ أَرْضًا طَيِّبَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ أَخْرَجَتْ نَبَاتَهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَمِنْهَا مَا تَكُونُ أَرْضًا خَبِيثَةً لَا تُخْرِجُ نَبَاتَهَا إلَّا نَكِدًا، أَيْ قَلِيلًا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ، فَهَذِهِ إذَا أَنْزَلَ عَلَيْهَا الْمَاءَ لَمْ تُخْرِجْ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ، فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى الْقُلُوبِ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى الْأَرْضِ بِحُصُولِ الْحَيَاةِ بِهَذَا وَهَذَا، وَشَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْأَرْضِ إذْ هِيَ مَحَلُّ الْأَعْمَالِ كَمَا أَنَّ الْأَرْضَ مَحَلُّ النَّبَاتِ، وَأَنَّ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَنْتَفِعُ بِالْوَحْيِ وَلَا يَزْكُو عَلَيْهِ وَلَا يُؤْمِنُ بِهِ كَالْأَرْضِ الَّتِي لَا تَنْتَفِعُ بِالْمَطَرِ وَلَا تُخْرِجُ نَبَاتَهَا بِهِ إلَّا قَلِيلًا لَا يَنْفَعُ، وَأَنَّ الْقَلْبَ الَّذِي آمَنَ بِالْوَحْيِ وَزَكَا عَلَيْهِ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ كَالْأَرْضِ الَّتِي أَخْرَجَتْ نَبَاتَهَا بِالْمَطَرِ؛ فَالْمُؤْمِنُ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ وَعَقَلَهُ وَتَدَبَّرَهُ بَانَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، فَشُبِّهَ بِالْبَلَدِ الطَّيِّبِ الَّذِي يُمْرِعُ وَيُخْصِبُ وَيَحْسُنُ

<<  <  ج: ص:  >  >>