للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كُفَّارُ قُرَيْشٍ مِنْ دُخُولِ بَيْتِ اللَّهِ، وَحَبَسُوا الْهَدْيَ عَنْ مَحِلِّهِ، وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الشُّرُوطَ الْجَائِرَةَ الظَّالِمَةَ، فَاضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ، وَقَلِقَتْ وَلَمْ تُطِقْ الصَّبْرَ، فَعَلِمَ - تَعَالَى - مَا فِيهَا، فَثَبَّتَهَا بِالسَّكِينَةِ رَحْمَةً مِنْهُ وَرَأْفَةً وَلُطْفًا، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، وَتَحْتَمِلُ الْآيَةَ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ فَثَبَّتَهَا بِالسَّكِينَةِ وَقْتَ قَلَقِهَا وَاضْطِرَابِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِمَّا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى إنْزَالِ السَّكِينَةِ وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ إنْزَالِهَا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: ٢٦] لَمَّا كَانَتْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ تُوجِبُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ مَا يُنَاسِبُهَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ سَكِينَةً تُقَابِلُ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي أَلْسِنَتِهِمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى مُقَابِلَةً لِمَا تُوجِبُهُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَلِمَةِ الْفُجُورِ، فَكَانَ حَظُّ، الْمُؤْمِنِينَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَلِمَةَ التَّقْوَى عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَحَظُّ أَعْدَائِهِمْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَلِمَةُ الْفُجُورِ وَالْعَدُوَّانِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ؛ فَكَانَتْ هَذِهِ السَّكِينَةُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ جُنْدًا مِنْ جُنْدِ اللَّهِ أَيَّدَ بِهَا اللَّهُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي مُقَابَلَةِ جُنْدِ الشَّيْطَانِ الَّذِي فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ وَأَلْسِنَتِهِمْ.

وَثَمَرَةُ هَذِهِ السَّكِينَةِ الطُّمَأْنِينَةُ لِلْخَيْرِ تَصْدِيقًا وَإِيقَانًا وَلِلْأَمْرِ تَسْلِيمًا وَإِذْعَانًا، فَلَا تَدَعْ شُبْهَةً تُعَارِضُ الْخَيْرَ وَلَا إرَادَةً تُعَارِضُ الْأَمْرَ، فَلَا تَمُرُّ مُعَارَضَاتُ السُّوءِ بِالْقَلْبِ إلَّا وَهِيَ مُجْتَازَةٌ مِنْ مُرُورِ الْوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يُبْتَلَى بِهَا الْعَبْدُ لِيَقْوَى إيمَانُهُ، وَيَعْلُوَ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانُهُ، بِمُدَافَعَتِهَا وَرَدِّهَا وَعَدَمِ السُّكُونِ إلَيْهَا، فَلَا يَظُنُّ الْمُؤْمِنُ أَنَّهَا لِنَقْصِ دَرَجَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ.

فَصْلٌ:

[السَّكِينَةُ عِنْدَ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ] وَمِنْهَا السَّكِينَةُ عِنْدَ الْقِيَامِ بِوَظَائِف الْعُبُودِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُوَرِّثُ الْخُضُوعَ وَالْخُشُوعَ وَغَضَّ الطَّرَفِ وَجَمْعِيَّةَ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِحَيْثُ يُؤَدِّي عُبُودِيَّتَهُ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ، وَالْخُشُوعُ نَتِيجَةُ هَذِهِ السَّكِينَةِ وَثَمَرَتُهَا، وَخُشُوعُ الْجَوَارِحِ نَتِيجَةُ خُشُوعِ الْقَلْبِ، وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ «لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» .

فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ ذَكَرْتَ أَقْسَامَهَا وَنَتِيجَتَهَا وَثَمَرَتَهَا وَعَلَامَتَهَا، فَمَا أَسْبَابُهَا الْجَالِبَةُ لَهَا؟ [أَسْبَابُ السَّكِينَةِ] قُلْتُ: سَبَبُهَا اسْتِيلَاءُ مُرَاقَبَةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ جَلَّ جَلَالُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَكَلَّمَا اشْتَدَّتْ هَذِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>