للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْحَجِّ: قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ؛ فَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي يَسُوغُ لَهُمْ الْإِفْتَاءُ، وَيَسُوغُ اسْتِفْتَاؤُهُمْ وَيَتَأَدَّى بِهِمْ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ، وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» وَهُمْ غَرْسُ اللَّهِ الَّذِينَ لَا يَزَالُ يَغْرِسُهُمْ فِي دِينِهِ، وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: لَنْ تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّتِهِ.

فَصْلٌ:

النَّوْعُ الثَّانِي: مُجْتَهِدٌ مُقَيَّدٌ فِي مَذْهَبٍ مِنْ ائْتَمَّ بِهِ؛ فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِي مَعْرِفَةِ فَتَاوِيهِ وَأَقْوَالِهِ وَمَأْخَذِهِ وَأُصُولِهِ، عَارِفٌ بِهَا، مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّخْرِيجِ عَلَيْهَا وَقِيَاسُ مَا لَمْ يَنُصَّ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى مَنْصُوصِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا لِإِمَامِهِ لَا فِي الْحُكْمِ وَلَا فِي الدَّلِيلِ، لَكِنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْفُتْيَا وَدَعَا إلَى مَذْهَبِهِ وَرُتَبِهِ وَقَرَّرَهُ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فِي مَقْصِدِهِ وَطَرِيقِهِ مَعًا.

وَقَدْ ادَّعِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالْقَاضِي أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ الَّذِي لَهُ، وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ خَلْقٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُزَنِيّ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَشْهَبَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي: هَلْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْتَقِلِّينَ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ مُتَقَيِّدِينَ بِمَذَاهِبِ أَئِمَّتِهِمْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ وَفَتَاوِيهِمْ وَاخْتِيَارَاتهمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّتِهِمْ فِي كُلِّ مَا قَالُوهُ، وَخِلَافُهُمْ لَهُمْ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُنْكَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ الْمُسْتَقِلُّ وَالْمُسْتَكْثِرُ، وَرُتْبَةُ هَؤُلَاءِ دُونَ رُتْبَةِ الْأَئِمَّةِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِالِاجْتِهَادِ.

فَصْلٌ:

النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَنْ هُوَ مُجْتَهِدٌ فِي مَذْهَبٍ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِ، مُقَرِّرٌ لَهُ بِالدَّلِيلِ، مُتْقِنٌ لِفَتَاوِيهِ، عَالِمٌ بِهَا، لَكِنْ لَا يَتَعَدَّى أَقْوَالَهُ وَفَتَاوِيَهُ وَلَا يُخَالِفُهَا، وَإِذَا وُجِدَ نَصُّ إمَامِهِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا شَأْنُ أَكْثَرِ الْمُصَنِّفِينَ فِي مَذَاهِبِ أَئِمَّتِهِمْ، وَهُوَ حَالُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ لِكَوْنِهِ مُجْتَزِيًا بِنُصُوصِ إمَامِهِ، فَهِيَ عِنْدَهُ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ، قَدْ اكْتَفَى بِهَا مِنْ كُلْفَةِ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، وَقَدْ كَفَاهُ الْإِمَامُ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ وَمُؤْنَةَ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْ النُّصُوصِ، وَقَدْ يَرَى إمَامَهُ ذَكَرَ حُكْمًا بِدَلِيلِهِ؛ فَيَكْتَفِي هُوَ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ مُعَارِضٍ لَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>