فَتَأَمَّلْ تَضَمُّنَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ - عَلَى اخْتِصَارِهَا وَإِيجَازِهَا وَبَلَاغَتِهَا - لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: ٤٩] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ رَدًّا يَتَضَمَّنُ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إعَادَتِهِمْ خَلْقًا جَدِيدًا فَقَالَ: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: ٥٠] {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: ٥١] فَلَمَّا اسْتَبْعَدُوا أَنْ يُعِيدَهُمْ اللَّهُ خَلْقًا جَدِيدًا بَعْدَ أَنْ صَارُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا قِيلَ لَهُمْ: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْتَ أَوْ السَّمَاءَ أَوْ الْأَرْضَ أَوْ أَيَّ خَلْقٍ اسْتَعْظَمْتُمُوهُ وَكَبُرَ فِي صُدُورِكُمْ، وَمَضْمُونُ الدَّلِيلِ أَنَّكُمْ مَرْبُوبُونَ مَخْلُوقُونَ مَقْهُورُونَ عَلَى مَا يَشَاءُ خَالِقُكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْوَالِكُمْ مِنْ خِلْقَةٍ إلَى خِلْقَةٍ لَا تَقْبَلُ الِاضْمِحْلَالَ كَالْحِجَارَةِ وَالْحَدِيدِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ كُنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الْخِلْقَةِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ لَنَفَذَتْ أَحْكَامِي وَقُدْرَتِي وَمَشِيئَتِي، وَلَمْ تَسْبِقُونِي وَلَمْ تَفُوتُونِي، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ: اصْعَدْ إلَى السَّمَاءِ فَإِنِّي لَاحِقُك؛ أَيْ لَوْ صَعِدْت إلَى السَّمَاءِ لَحِقْتُك، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الْآيَةِ لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ أَعْظَمَ خَلْقًا مِنْ ذَلِكَ لَمَا أَعْجَزْتُمُونِي وَلَمَا فُتُّمُونِي.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ، أَيْ صَوِّرُوا أَنْفُسَكُمْ وَقَدِّرُوهَا خَلْقًا لَا يَضْمَحِلُّ وَلَا يَنْحَلُ، فَإِنَّا سَنُمِيتُكُمْ ثُمَّ نُحْيِيكُمْ وَنُعِيدُكُمْ خَلْقًا جَدِيدًا، وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَرْقٌ لَطِيفٌ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّكُمْ لَوْ قَدَرْتُمْ عَلَى نَقْلِ خِلْقَتِكُمْ مِنْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ هِيَ أَشَدَّ مِنْهَا وَأَقْوَى لَنَفَذَتْ مَشِيئَتُنَا وَقُدْرَتُنَا فِيكُمْ وَلَمْ تُعْجِزُونَا، فَكَيْفَ وَأَنْتُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ؟ وَالْمَعْنَى الثَّانِي يَقْتَضِي أَنَّكُمْ صَوِّرُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَنْزِلُوهَا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، ثُمَّ اُنْظُرُوا أَتَفُوتُونَا وَتُعْجِزُونَا أَمْ قُدْرَتُنَا وَمَشِيئَتُنَا مُحِيطَةٌ بِكُمْ وَلَوْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ؟ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ الَّتِي لَا تَعْرِضُ فِيهَا شُبْهَةٌ أَلْبَتَّةَ، بَلْ لَا تَجِدُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ عَنْ الْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ لَهَا بُدًّا، فَلَمَّا عَلِمَ الْقَوْمُ صِحَّةَ هَذَا الْبُرْهَانِ وَأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ انْتَقَلُوا إلَى الْمُطَالَبَةِ بِمَنْ يُعِيدُهُمْ فَقَالُوا: مَنْ يُعِيدُنَا؟ وَهَذَا سَوَاءٌ كَانَ سُؤَالًا مِنْهُمْ عَنْ تَعْيِينِ الْمُعِيدِ أَوْ إنْكَارًا مِنْهُمْ لَهُ فَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ التَّعَنُّتِ وَأَبْيَنِهِ، وَلِهَذَا كَانَ جَوَابُهُ: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: ٥١] وَلَمَّا عَلِمَ الْقَوْمُ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ قَاطِعٌ انْتَقَلُوا إلَى بَابٍ آخَرَ مِنْ التَّعَنُّتِ؛ وَهُوَ السُّؤَالُ عَنْ وَقْتِ هَذِهِ الْإِعَادَةِ، فَأَنْغَضُوا إلَيْهِ رُءُوسَهُمْ وَقَالُوا: مَتَى هُوَ؟ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: ٥١]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute