التَّرَائِبِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا تَرَائِبُهُ أَيْضًا، وَهِيَ عِظَامُ الصَّدْرِ مَا بَيْنَ التَّرْقُوَةِ إلَى الثَّنْدُوَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَرَائِبُ الْمَرْأَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: ٧] وَلَمْ يَقُلْ يَخْرُجُ مِنْ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَاءُ الرَّجُلِ خَارِجًا مِنْ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ كَمَا قَالَ فِي اللَّبَنِ: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل: ٦٦] وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالنُّطْفَةُ هِيَ مَاءُ الرَّجُلِ، كَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالنُّطْفَةُ الْمَاءُ الصَّافِي قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالنُّطْفَةُ مَاءُ الرَّجُلِ، وَالْجَمْعُ نُطَفٌ؛ وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي يُوصَفُ بِالدَّفْقِ وَالنَّضْحِ إنَّمَا هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ، وَلَا يُقَالُ نَضَحَتْ الْمَرْأَةُ الْمَاءَ وَلَا دَفَقَتْهُ، وَاَلَّذِي أَوْجَبَ لِأَصْحَابِ الْقَوْلِ الْآخَرِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: التَّرَائِبُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنْ الصَّدْرِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَهْلُ اللُّغَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْشَدُوا لِامْرِئِ الْقَيْسِ:
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ... تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ التَّرَائِبِ بِالْمَرْأَةِ، بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: التَّرَائِبُ عِظَامُ الصَّدْرِ مَا بَيْنَ التَّرْقُوَةِ إلَى الثَّنْدُوَةِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: ٨] الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ عَلَى الْإِنْسَانِ، أَيْ إنَّ اللَّهَ عَلَى رَدِّهِ إلَيْهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَمَنْ قَالَ: " إنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ عَلَى الْمَاءِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى رَجْعِهِ فِي الْإِحْلِيلِ أَوْ فِي الصَّدْرِ أَوْ حَبْسِهِ عَنْ الْخُرُوجِ لَقَادِرٌ " فَقَدْ أَبْعَدَ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ السِّيَاقَ يَأْبَاهُ، وَطَرِيقَةُ الْقُرْآنُ - وَهِيَ الِاسْتِدْلَال بِالْمَبْدَإِ وَالنَّشْأَةِ الْأُولَى عَلَى الْمَعَادِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ - وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَيَّدَهُ بِالظَّرْفِ، وَهُوَ {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: ٩] وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ دَعَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَنْظُرَ فِي مَبْدَأِ خَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّهُ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى مَعَادِهِ وَرُجُوعِهِ إلَى رَبِّهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: ٢٤] {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: ٢٥] {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس: ٢٦] {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: ٢٧] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: ٢٨] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [عبس: ٢٩] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: ٣٠] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: ٣١] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ نَظَرَهُ فِي إخْرَاجِ طَعَامِهِ مِنْ الْأَرْضِ دَلِيلًا عَلَى إخْرَاجِهِ هُوَ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، اسْتِدْلَالًا بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute