للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طَوِيلٌ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَتَعَذَّرَ اسْتِدْرَاكُهُ، وَأَفْرَطَ فِي طَائِفَةٍ أُخْرَى فَسَوَّغَتْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ أُتِيَتْ مِنْ قِبَلِ تَقْصِيرِهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَإِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْحَقِّ، وَقَامَتْ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ، وَأَسْفَرَ صُبْحُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ؛ فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ وَرِضَاهُ وَأَمْرُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْصُرْ طُرُقَ الْعَدْلِ وَأَدِلَّتَهُ وَأَمَارَاتِهِ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ وَأَبْطَلَ غَيْرَهُ مِنْ الطُّرُقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَدَلُّ وَأَظْهَرُ، بَلْ بَيَّنَ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الطُّرُقِ أَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَقِيَامُ النَّاسِ بِالْقِسْطِ، فَأَيُّ طَرِيقٍ اُسْتُخْرِجَ بِهَا الْحَقُّ وَمَعْرِفَةُ الْعَدْلِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِمُوجَبِهَا وَمُقْتَضَاهَا.

وَالطُّرُقُ أَسْبَابٌ وَوَسَائِلُ لَا تُرَادُ لِذَوَاتِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ غَايَاتُهَا الَّتِي هِيَ الْمَقَاصِدُ، وَلَكِنْ نَبَّهَ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الطُّرُقِ عَلَى أَسْبَابِهَا وَأَمْثَالِهَا، وَلَنْ تَجِدَ طَرِيقًا مِنْ الطُّرُقِ الْمُثْبِتَةِ لِلْحَقِّ إلَّا وَهِيَ شِرْعَةٌ وَسَبِيلٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَهَلْ يُظَنُّ بِالشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ خِلَافُ ذَلِكَ؟ وَلَا نَقُولُ: إنَّ السِّيَاسَةَ الْعَادِلَةَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ، بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَتَسْمِيَتُهَا سِيَاسَةً أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ، وَإِلَّا فَإِذَا كَانَتْ عَدْلًا فَهِيَ مِنْ الشَّرْعِ، فَقَدْ حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تُهْمَةٍ، وَعَاقَبَ فِي تُهْمَةٍ لَمَّا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الرِّيبَةِ عَلَى الْمُتَّهَمِ؛ فَمَنْ أَطْلَقَ كُلًّا مِنْهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُ أَوْ حَلَّفَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِاشْتِهَارِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَنَقْبِ الدُّورِ وَتَوَاتُرِ السَّرِقَاتِ - وَلَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الْمَسْرُوقِ مَعَهُ - وَقَالَ: لَا آخُذُهُ إلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ أَوْ إقْرَارِ اخْتِيَارٍ وَطَوْعٍ فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَالَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ سَهْمَهُ، وَتَحْرِيقُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مَتَاعَهُ، وَمَنْعُ الْمُسِيءِ عَلَى أَمِينٍ سَلَبَ قَتِيلَهُ، وَأَخْذُ شَطْرِ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَإِضْعَافُهُ الْغُرْمَ عَلَى سَارِقٍ مَالًا قَطْعٌ فِيهِ، وَعُقُوبَتُهُ بِالْجَلْدِ، وَإِضْعَافُهُ الْغُرْمَ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ، وَتَحْرِيقُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَانُوتَ الْخَمَّارِ، وَتَحْرِيقُهُ قَرْيَةً يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ، وَتَحْرِيقُهُ قَصْرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا احْتَجَبَ فِيهِ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَحَلْقُهُ رَأْسَ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ وَنَفْيُهُ، وَضَرْبُهُ صَبِيغًا بِالدُّرَّةِ لَمَّا تَتَبَّعَ الْمُتَشَابِهَ فَسَأَلَ عَنْهُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السِّيَاسَةِ الَّتِي سَاسَ بِهَا الْأُمَّةَ فَسَارَتْ سُنَّةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ خَالَفَهَا مَنْ خَالَفَهَا.

وَلَقَدْ حَدَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الزِّنَا بِمُجَرَّدِ الْحَبَلِ، وَفِي الْخَمْرِ بِالرَّائِحَةِ وَالْقَيْءِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ دَلِيلَ الْقَيْءِ وَالرَّائِحَةِ وَالْحَبَلِ عَلَى الشُّرْبِ وَالزِّنَا أَوْلَى مِنْ الْبَيِّنَةِ قَطْعًا؛ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالشَّرِيعَةِ إلْغَاءُ أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيقُ الصِّدِّيقِ اللُّوطِيَّ، وَإِلْقَاءُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لَهُ مِنْ شَاهِقٍ عَلَى رَأْسِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيقُ عُثْمَانَ الْمَصَاحِفَ الْمُخَالِفَةَ لِلْمُصْحَفِ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيقُ

<<  <  ج: ص:  >  >>