للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَوْ فِي قَبُولِهِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَأَلْحَقَ النَّظِيرَ بِالنَّظِيرِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِضَرْبٍ مِنْ الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: «اقْضُوا اللَّهَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ يَكُونُ لَهُ أَجْرٌ» ، وَهَذَا مِنْ قِيَاسُ الْعَكْسِ الْجَلِيِّ الْبَيِّنِ، وَهُوَ إثْبَاتُ نَقِيضِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ لِثُبُوتِ ضِدِّ عِلَّتِهِ فِيهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: إنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: فَأَنَّى تَرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِرْقٌ نَزَعَهُ، قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ» . وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ.

وَمِنْ تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيَفْهَمَ السَّائِلُ.

ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّيَّ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: اقْضُوا اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» ، وَهَذَا الَّذِي تَرْجَمَهُ الْبُخَارِيِّ هُوَ فَصْلُ النِّزَاعِ فِي الْقِيَاسِ، لَا كَمَا يَقُولُهُ الْمُفْرِطُونَ فِيهِ وَلَا الْمُفَرِّطُونَ، فَإِنَّ النَّاسَ فِيهِ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ مَنْ يَنْفِي الْعِلَلَ وَالْمَعَانِيَ وَالْأَوْصَافَ الْمُؤَثِّرَةَ، وَيَجُوزُ وُرُودُ الشَّرِيعَةِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - شَرَعَ الْأَحْكَامَ لِعِلَلٍ وَمَصَالِحَ، وَرَبَطَهَا بِأَوْصَافٍ مُؤَثِّرَةٍ فِيهَا مُقْتَضِيَةٍ لَهَا طَرْدًا وَعَكْسًا، وَأَنَّهُ قَدْ يُوجِبُ الشَّيْءَ وَيُحَرِّمُ نَظِيرَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيُحَرِّمُ الشَّيْءَ وَيُبِيحُ نَظِيرَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَنْهَى عَنْ الشَّيْءِ لَا لِمَفْسَدَةٍ فِيهِ، وَيَأْمُرُ بِهِ لَا لِمَصْلَحَةٍ بَلْ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةُ، وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَفْرَطُوا فِيهِ، وَتَوَسَّعُوا جِدًّا، وَجَمَعُوا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِأَدْنَى جَامِعٍ مِنْ شَبَهٍ أَوْ طَرْدٍ أَوْ وَصْفٍ يَتَخَيَّلُونَهُ عِلَّةً يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِلَّتَهُ وَأَنْ لَا يَكُونَ، فَيَجْعَلُونَهُ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي عَلَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحُكْمَ بِالْخَرْصِ وَالظَّنِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى ذَمِّهِ كَمَا سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ فِي الْأَحْكَامِ الْعِلَلَ وَالْأَوْصَافَ الْمُؤَثِّرَةَ فِيهَا طَرْدًا وَعَكْسًا «كَقَوْلِهِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ: هَلْ تَدْعُ الصَّلَاةَ زَمَنَ اسْتِحَاضَتِهَا؟ فَقَالَ: لَا، إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ فَأَمَرَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ هَذَا الدَّمِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ وَلَيْسَ بِدَمِ حَيْضٍ» وَهَذَا قِيَاسٌ يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ وَالْفَرْقَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>