مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ قِيَاسٌ مُقْتَضَاهُ نَقِيضُ حُكْمِ الْآخَرِ اخْتَلَفَ، وَلَا بُدَّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا صَرِيحٌ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] .
الثَّانِي: أَنَّ الِاخْتِلَافَ سَبَبُهُ اشْتِبَاهُ الْحَقِّ وَخَفَاؤُهُ، وَهَذَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - ذَمَّ الِاخْتِلَافَ فِي كِتَابِهِ، وَنَهَى عَنْ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ، فَقَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: ١٣] وَقَالَ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: ١٠٥] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: ١٥٩] وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: ٤٦] وَقَالَ: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: ٥٣] وَالزُّبُرُ: الْكُتُبُ، أَيْ كُلُّ فِرْقَةٍ صَنَّفُوا كُتُبًا أَخَذُوا بِهَا وَعَمِلُوا بِهَا وَدَعَوْا إلَيْهَا دُونَ كُتُبِ الْآخَرِينَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ سَوَاءٌ، وَقَالَ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: ١٠٦] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالِائْتِلَافِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» وَقَالَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا» وَكَانَ التَّنَازُعُ وَالِاخْتِلَافُ أَشَدَّ شَيْءٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ إذَا رَأَى مِنْ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافًا يَسِيرًا فِي فَهْمِ النُّصُوصِ يَظْهَرُ فِي وَجْهِهِ حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِيهِ حَبُّ الرُّمَّانِ وَيَقُولُ: «أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ» وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ بَعْدَهُ أَشَدَّ عَلَيْهِ الِاخْتِلَافَ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَمَّا الصِّدِّيقُ فَصَانَ اللَّهُ خِلَافَتَهُ عَنْ الِاخْتِلَافِ الْمُسْتَقِرِّ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ، وَأَمَّا خِلَافَةُ عُمَرَ فَتَنَازَعَ الصَّحَابَةُ تَنَازُعًا يَسِيرًا فِي قَلِيلٍ مِنْ الْمَسَائِلِ جِدًّا، وَأَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى اجْتِهَادِهِ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ وَلَا طَعْنٍ، فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ صَحِبَ الِاخْتِلَافَ فِيهَا بَعْضُ الْكَلَامِ وَاللَّوْمِ، كَمَا لَامَ عَلِيٌّ عُثْمَانَ فِي أَمْرِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَامَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعَائِشَةُ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ وَالْوِلَايَاتِ، فَلَمَّا أَفَضَتْ الْخِلَافَةُ إلَى عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فِي الْجَنَّةِ صَارَ الِاخْتِلَافُ بِالسَّيْفِ.
[الِاخْتِلَافُ مَهْلَكَةٌ]
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ مُنَافٍ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَخْتَلِفُوا؛ فَإِنَّكُمْ إنْ اخْتَلَفْتُمْ كَانَ مَنْ بَعْدَكُمْ أَشَدَّ اخْتِلَافًا. وَلَمَّا سَمِعَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ يَخْتَلِفَانِ فِي صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ أَوْ الثَّوْبَيْنِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ: رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَلَفَا، فَعَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمْ يَصْدُرُ الْمُسْلِمُونَ؟ لَا أَسْمَعُ اثْنَيْنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute