وَالْحَاضِرُونَ.
فَقُلْتُمْ: هَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَا الْحِلَّ حَتَّى صَرَّحَا بِلَفْظِ بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، وَلَا يَكْفِيهِمَا أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا رَاضٍ بِهَذَا كُلَّ الرِّضَا، وَلَا قَدْ رَضِيتُ بِهَذَا عِوَضًا عَنْ هَذَا، مَعَ كَوْنِ هَذَا اللَّفْظِ أَدَلَّ عَلَى الرِّضَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - شَرْطًا لِلْحِلِّ مِنْ لَفْظِهِ بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِيهِ، وَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِاللُّزُومِ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَعَبَّدَنَا الشَّارِعُ فِيهَا بِأَلْفَاظٍ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا كَالْأَذَانِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ وَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهَا، بَلْ هَذِهِ الْعُقُودُ تَقَعُ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلَمْ يَتَعَبَّدْنَا الشَّارِعُ فِيهَا بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَا فَرْقَ أَصْلًا بَيْنَ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَبَيْنَ كُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهَا.
وَأَفْسَدُ مِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ وُقُوعِ النِّكَاحِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالتُّرْكِ وَالْبَرْبَرِ وَمَنْ لَا يَعْرِفُ كَلِمَةً عَرَبِيَّةً، وَالْعَجَبُ أَنَّكُمْ اشْتَرَطْتُمْ تَلَفُّظَهُ بِلَفْظٍ لَا يَدْرِي مَا مَعْنَاهُ أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ صَوْتٍ فِي الْهَوَاءِ فَارِغٍ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ، فَعَقَدْتُمْ الْعَقْدَ بِهِ، وَأَبْطَلْتُمُوهُ بِتَلَفُّظِهِ بِاللَّفْظِ الَّذِي يَعْرِفُهُ وَيَفْهَمُ مَعْنَاهُ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ مَعْنَاهُ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ، وَلَا يَقْتَضِي الْقِيَاسُ إلَّا ضِدَّ هَذَا، فَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ.
وَبِإِزَاءِ هَذَا الْقِيَاسِ مَنْ يُجَوِّزُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَيُجَوِّزُ انْعِقَادَ الصَّلَاةِ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ كَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَجَلَّ اللَّهُ، وَاَللَّهُ الْعَظِيمُ، وَنَحْوِهِ - عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ فَارِسِيًّا وَيُجَوِّزُ إبْدَالَ لَفْظِ التَّشَهُّدِ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ جِنَايَاتِ الْآرَاءِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَالصَّوَابُ اتِّبَاعُ أَلْفَاظِ الْعِبَادَاتِ، وَالْوُقُوفُ مَعَهَا، وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالْمُعَامَلَاتُ فَإِنَّمَا يَتْبَعُ مَقَاصِدَهَا وَالْمُرَادُ مِنْهَا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، إذْ لَمْ يُشَرِّعْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَنَا التَّعَبُّدَ بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ لَا نَتَعَدَّاهَا.
وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ إيجَابِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ وَجَعَلْتُمُوهَا كَالزَّوْجَةِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ مِنْ مُلَازَمَةِ الرَّجْعِيَّةِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَنْزِلَهُمَا حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: ١] وَحَيْثُ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَنْ تَمْكُثَ فِي بَيْتِهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ بَوْلِ الطِّفْلِ وَالطِّفْلَةِ الرَّضِيعَيْنِ فَقُلْتُمْ: يُغْسَلَانِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ قَلِيلِ الْبَوْلِ وَكَثِيرِهِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُمَا مِنْ تَرْتِيبِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَتَرْتِيبِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَأَوْجَبْتُمْ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا فِي الْمَعْنَى وَلَا فِي النَّقْلِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ قَطُّ إلَّا مُرَتِّبًا وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ كَمَا لَمْ يُصَلِّ إلَّا مُرَتِّبًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمَنْكُوسَةَ لَيْسَتْ كَالْمُسْتَقِيمَةِ، وَيَكْفِي هَذَا الْوُضُوءَ اسْمُهُ وَهُوَ أَنَّهُ وُضُوءٌ مُنَكَّسٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِبَادَةً؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute