للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إجْمَاعَ فِيهِ. قَالَهُ شَيْخُنَا وَاخْتَارَ جَوَازَهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ، إذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَلَيْسَ بَيْعَ كَالِئٍ بِكَالِئٍ فَيَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ بِلَفْظِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَيَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَدْ اشْتَغَلَتْ فِيهِ الذِّمَّتَانِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَجَّلْ أَحَدُهُمَا مَا يَأْخُذُهُ فَيَنْتَفِعُ بِتَعْجِيلِهِ وَيَنْتَفِعُ صَاحِبُ الْمُؤَخَّرِ بِرِبْحِهِ، بَلْ كِلَاهُمَا اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ.

وَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا غَرَضٌ صَحِيحٌ وَمَنْفَعَةٌ مَطْلُوبَةٌ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي مَسْأَلَةِ التَّقَاصِّ، فَإِنَّ ذِمَّتَهُمَا تَبْرَأُ مِنْ أَسْرِهَا، وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مَطْلُوبٌ لَهُمَا وَلِلشَّارِعِ، فَأَمَّا فِي الصُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَأَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَالْآخَرُ يَنْتَفِعُ بِمَا يَرْبَحُهُ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَشْغَلَ أَحَدُهُمَا ذِمَّتَهُ وَالْآخَرُ يَحْصُلُ عَلَى الرِّبْحِ - وَذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ - جَازَ أَنْ يُفَرِّغَهَا مِنْ دَيْنٍ وَيَشْغَلَهَا بِغَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ شَغَلَهَا بِهِ ابْتِدَاءً إمَّا بِقَرْضٍ أَوْ بِمُعَاوَضَةٍ، فَكَانَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً بِشَيْءٍ، فَانْتَقَلَتْ مِنْ شَاغِلٍ إلَى شَاغِلٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ بَيْعُ كَالِئٍ بِكَالِئٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ فَلَمْ يَنْهَ الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ لَا بِلَفْظِهِ وَلَا بِمَعْنَى لَفْظِهِ، بَلْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَقْتَضِي جَوَازَهُ، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ اقْتَضَتْ نَقْلَ الدَّيْنِ وَتَحْوِيلَهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَقَدْ عَاوَضَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ مِنْ دَيْنِهِ بِدَيْنٍ آخَرَ فِي ذِمَّةِ ثَالِثٍ، فَإِذَا عَاوَضَهُ مِنْ دَيْنِهِ عَلَى دَيْنٍ آخَرَ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

رَجَعْنَا إلَى كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: الْوَجْهُ الثَّانِي - يَعْنِي مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ -: أَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ جِنْسِ إيفَاءِ الْحَقِّ، لَا مِنْ جِنْسِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إذَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَدِينِ مَالَهُ كَانَ هَذَا اسْتِيفَاءً، فَإِذَا أَحَالَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الدَّيْنَ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَوَالَةَ فِي مَعْرِضِ الْوَفَاءِ، فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ» فَأَمَرَ الْمَدِينَ بِالْوَفَاءِ، وَنَهَاهُ عَنْ الْمَطْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ ظَالِمٌ إذَا مَطَلَ، وَأَمَرَ الْغَرِيمَ بِقَبُولِ الْوَفَاءِ إذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيٍّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: ١٧٨] أَمَرَ الْمُسْتَحِقَّ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَمَرَ الْمَدِينَ أَنْ يُؤَدِّيَ بِإِحْسَانٍ، وَوَفَاءُ الدَّيْنِ لَيْسَ هُوَ الْبَيْعُ الْخَاصُّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَوْبُ الْمُعَاوَضَةِ.

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَفَاءَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ بِسَبَبِ أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا قَبَضَ الْوَفَاءَ صَارَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ مِثْلُهُ، ثُمَّ إنَّهُ يُقَاصُّ مَا عَلَيْهِ بِمَالِهِ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ أَنْكَرَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: بَلْ نَفْسُ الْمَالِ الَّذِي قُبِضَ يَحْصُلُ بِهِ الْوَفَاءُ، وَلَا حَاجَةَ أَنْ يُقَدَّرَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا، وَأُولَئِكَ قَصَدُوا أَنْ يَكُونَ وَفَاءَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ، وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ مِنْ جِنْسِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ، وَالْمُعَيَّنُ مِنْ جِنْسِ الْمُعَيَّنِ، فَمَنْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ، وَأَيُّ مُعَيَّنٍ اسْتَوْفَاهُ حَصَلَ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ الْمُطْلَقِ

<<  <  ج: ص:  >  >>