للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَهْبِطُوا السُّوقَ وَيَعْلَمُوا السِّعْرَ، وَلَيْسَ هَاهُنَا عَيْبٌ وَلَا خُلْفٌ فِي صِفَةٍ، وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ تَدْلِيسٍ وَغِشٍّ. فَصْلٌ [ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ]

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» فَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ فَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ أَصَحُّ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ؟ فَإِنَّ الْخَرَاجَ اسْمٌ لِلْغَلَّةِ مِثْلَ كَسْبِ الْعَبْدِ وَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْوَلَدُ وَاللَّبَنُ فَلَا يُسَمَّى خَرَاجًا، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا مِنْ الْفَوَائِدِ، وَهُوَ مَنْ أَفْسَدَ الْقِيَاسَ؛ فَإِنَّ الْكَسْبَ الْحَادِثَ وَالْغَلَّةَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا اللَّبَنُ هَاهُنَا فَإِنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ، فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَجْعَلْ الصَّاعَ عِوَضًا عَنْ اللَّبَنِ الْحَادِثِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ اللَّبَنِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ فِي الضَّرْعِ، فَضَمَانُهُ هُوَ مَحْضُ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ.

وَأَمَّا تَضْمِينُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَفِي غَايَةِ الْعَدْلِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ بِمِثْلِهِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ مَحْفُوظٌ غَيْرُ مُعَرَّضٍ لِلْفَسَادِ، فَإِذَا حُلِبَ صَارَ عُرْضَةً لِحَمْضِهِ وَفَسَادِهِ، فَلَوْ ضَمِنَ اللَّبَنَ الَّذِي كَانَ فِي الضَّرْعِ بِلَبَنٍ مَحْلُوبٍ فِي الْإِنَاءِ كَانَ ظُلْمًا تَتَنَزَّهُ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّبَنَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ اخْتَلَطَ بِاللَّبَنِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ، فَلَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُهُ حَتَّى يُوجِبَ نَظِيرَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَقَدْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ فَيُفْضِي إلَى الرِّبَا؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْأَقْسَامِ أَنْ تُجْهَلَ الْمُسَاوَاةُ. [الْحِكْمَةُ فِي رَدِّ التَّمْرِ بَدَلِ اللَّبَنِ. وَأَيْضًا فَلَوْ وَكَّلْنَاهُ إلَى تَقْدِيرِهِمَا أَوْ تَقْدِيرِ أَحَدِهِمَا لَكَثُرَ النِّزَاعُ وَالْخَصْمُ بَيْنَهُمَا، فَفَصَلَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ صَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ النِّزَاعَ وَقَدَّرَهُ بِحَدٍّ لَا يَتَعَدَّيَانِهِ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ وَفَصْلًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَكَانَ تَقْدِيرُهُ بِالتَّمْرِ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إلَى اللَّبَنِ، فَإِنَّهُ قُوتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا كَانَ اللَّبَنُ قُوتًا لَهُمْ، وَهُوَ مَكِيلٌ كَمَا أَنَّ اللَّبَنَ مَكِيلٌ؛ فَكِلَاهُمَا مَطْعُومٌ مُقْتَاتٌ مَكِيلٌ، وَأَيْضًا فَكِلَاهُمَا يَقْتَاتُ بِهِ بِلَا صَنْعَةٍ وَلَا عِلَاجٍ، بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأَرُزِّ، فَالتَّمْرُ أَقْرَبُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي كَانُوا يَقْتَاتُونَ بِهَا إلَى اللَّبَنِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تُوجِبُونَ صَاعَ التَّمْرِ فِي كُلِّ مَكَان، سَوَاءٌ كَانَ قُوتًا لَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>