للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْفِتْنَةِ، وَمُرَادُهُمْ التَّحْرِيمُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ بَيْعُ أَرْضِ مَكَّةَ، وَمُرَادُهُمْ التَّحْرِيمُ عِنْدَهُمْ؛ قَالُوا: وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ، وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَهُمْ؛ قَالُوا: وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ أَوْ غَيْرِهِ طَوْقَ الْحَدِيدِ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَرُّكِ، وَهُوَ الْغُلُّ، وَهُوَ حَرَامٌ؛ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ جِدًّا.

وَأَمَّا أَصْحَابُ مَالِكٍ فَالْمَكْرُوهُ عِنْدَهُمْ مَرْتَبَةٌ بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْمُبَاحِ، وَلَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجَوَازِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ أَكْلَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُبَاحٍ؛ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَجْوِبَتِهِ: أَكْرَهُ كَذَا، وَهُوَ حَرَامٌ؛ فَمِنْهَا أَنَّ مَالِكًا نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ الشِّطْرَنْجِ، وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ التَّحْرِيمِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ: إنَّهُ لَهْوٌ شَبَهُ الْبَاطِلِ، أَكْرَهُهُ وَلَا يَتَبَيَّنُ لِي تَحْرِيمُهُ فَقَدْ نَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ، وَتَوَقَّفَ فِي تَحْرِيمِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ وَإِلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ اللَّعِبَ بِهَا جَائِزٌ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ كَرِهَهَا، وَتَوَقَّفَ فِي تَحْرِيمِهَا، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَذْهَبَهُ جَوَازُ اللَّعِبِ بِهَا وَإِبَاحَتُهُ؟ وَمِنْ هَذَا أَيْضًا أَنَّهُ نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ تَزَوُّجِ الرَّجُلِ بِنْتَهُ مِنْ مَاءِ الزِّنَا، وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ إنَّهُ مُبَاحٌ وَلَا جَائِزٌ، وَاَلَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَمَنْصِبِهِ الَّذِي أَجَّلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الدِّينِ أَنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ، وَأَطْلَقَ لَفْظَ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّ الْحَرَامَ يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَقِيبَ ذِكْرِ مَا حَرَّمَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: ٢٣] إلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: ٢٣] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: ٣١] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: ٣٢] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الإسراء: ٣٣] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الإسراء: ٣٤] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] إلَى آخِرِ الْآيَاتِ؛ ثُمَّ قَالَ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: ٣٨] وَفِي الصَّحِيحِ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» .

فَالسَّلَفُ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْكَرَاهَةَ فِي مَعْنَاهَا الَّذِي اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنْ الْمُتَأَخِّرُونَ اصْطَلَحُوا عَلَى تَخْصِيصِ الْكَرَاهَةِ بِمَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَتَرْكُهُ أَرْجَحُ مِنْ فِعْلِهِ، ثُمَّ حَمَلَ مَنْ حَمَلَ مِنْهُمْ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ، فَغَلِطَ فِي ذَلِكَ، وَأَقْبَحُ غَلَطًا مِنْهُ مَنْ حَمَلَ لَفْظَ الْكَرَاهَةِ أَوْ لَفْظَ " لَا يَنْبَغِي " فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْحَادِثِ، وَقَدْ اطَّرَدَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ اسْتِعْمَالُ " لَا يَنْبَغِي " فِي الْمَحْظُورِ شَرْعًا وَقَدَرًا وَفِي الْمُسْتَحِيلِ الْمُمْتَنِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: ٩٢] وَقَوْلِهِ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: ٦٩] وَقَوْلِهِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>