للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمَصْدَرُهُمَا جَمِيعًا عَنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَضْعِهِ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ سِوَاهُ وَلَا يَتَقَاضَى إلَّا إيَّاهُ، كَمَا وَضَعَ قُوَّةَ الْبَصَرِ وَالنُّورِ لِلْبَاصِرِ فِي الْعَيْنِ، وَقُوَّةَ السَّمْعِ فِي الْأُذُنِ، وَقُوَّةَ الشَّمِّ فِي الْأَنْفِ، وَقُوَّةَ النُّطْقِ فِي اللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ، وَقُوَّةَ الْبَطْشِ فِي الْيَدِ، وَقُوَّةَ الْمَشْيِ فِي الرِّجْلِ، وَخَصَّ كُلَّ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَيَحْسُنُ أَنْ يُعْطَاهُ مِنْ أَعْضَائِهِ وَهَيْئَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَقَدْرِهِ، فَشَمَلَ إتْقَانُهُ وَإِحْكَامُهُ لِكُلِّ مَا شَمَلَهُ خَلْقُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: ٨٨] وَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَتْقَنَ خَلْقَهُ غَايَةَ الْإِتْقَانِ، وَأَحْكَمَهُ غَايَةَ الْإِحْكَامِ، فَلَأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ مُفَصَّلًا لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُنْكِرَهُ مُجْمَلًا، وَلَا يَكُونَ جَهْلُهُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَإِتْقَانِهِ كَذَلِكَ وَصُدُورِهِ عَنْ مَحْضِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مُسَوِّغًا لَهُ إنْكَارَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْظَمَ ظُلْمَ الْإِنْسَانِ وَجَهْلَهُ فَإِنَّهُ لَوْ اعْتَرَضَ عَلَى أَيِّ صَاحِبِ صِنَاعَةٍ كَانَتْ مِمَّنْ تَقْصُرُ عَنْهَا مَعْرِفَتُهُ وَإِدْرَاكُهُ عَلَى ذَلِكَ وَسَأَلَهُ عَمَّا اخْتَصَّتْ بِهِ صِنَاعَتُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْمَقَادِيرِ وَكَيْفَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ لَا أَكْبَرَ وَلَا أَصْغَرَ وَلَا عَلَى شَكْلٍ غَيْرِ ذَلِكَ يَسْخَرُ مِنْهُ، وَيَهْزَأُ بِهِ، وَعَجِبَ مِنْ سُخْفِ عَقْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ.

هَذَا مَا تَهَيَّأَهُ بِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي صِنَاعَتِهِ وَوُصُولِهِ فِيهَا إلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِدْرَاكِ عَلَيْهِ فِيهَا، هَذَا مَعَ أَنَّ صَاحِبَ تِلْكَ الصِّنَاعَةِ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عَنْ الْعَجْزِ وَالْقُصُورِ وَعَدَمِ الْإِحَاطَةِ وَالْجَهْلِ، بَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُ عَتِيدٌ حَاضِرٌ، ثُمَّ لَا يَسَعُهُ إلَّا التَّسْلِيمُ لَهُ، وَالِاعْتِرَافُ بِحِكْمَتِهِ، وَقَرَارُهُ بِجَهْلِهِ، وَعَجْزُهُ عَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَهَلَّا وَسِعَهُ ذَلِكَ مَعَ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْلَمِ الْعَالِمِينَ وَمَنْ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ فَأَحْكَمَهُ وَأَوْقَعَهُ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؟ وَقَدْ كَانَ هَذَا الْوَجْهُ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي دَفْعِ كُلِّ شُبْهَةٍ وَجَوَابِ كُلِّ سُؤَالٍ، وَهَذَا غَيْرُ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكَهَا نُفَاةُ الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا فَنَتَصَدَّى لِلْجَوَابِ الْمُفَصَّلِ، بِحَسَبِ الِاسْتِعْدَادِ وَمَا يُنَاسِبُ عُلُومَنَا النَّاقِصَةَ وَأَفْهَامَنَا الْجَامِدَةَ وَعُقُولَنَا الضَّعِيفَةَ وَعِبَارَاتِنَا الْقَاصِرَةَ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: [رَدْعُ الْمُفْسِدِينَ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ]

أَمَّا قَوْلُهُ: " كَيْفَ تَرْدَعُونَ عَنْ سَفْكِ الدَّمِ بِسَفْكِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالنَّجَاسَةِ " سُؤَالٌ فِي غَايَةِ الْوَهْنِ وَالْفَسَادِ، وَأَوَّلُ مَا يُقَالُ لِسَائِلِهِ: هَلْ تَرَاهُ رَدَعَ الْمُفْسِدِينَ وَالْجُنَاةَ عَنْ فَسَادِهِمْ وَجِنَايَاتِهِمْ وَكَفَّ عُدْوَانَهُمْ مُسْتَحْسَنًا فِي الْعُقُولِ مُوَافِقًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ أَوْ لَا تَرَاهُ كَذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالَ: " لَا أَرَاهُ كَذَلِكَ " كَفَانَا مُؤْنَةُ جَوَابِهِ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمُخَالَفَةِ جَمِيعِ طَوَائِفِ بَنِي آدَمَ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ وَنِحَلِهِمْ وَدِيَانَاتِهِمْ وَآرَائِهِمْ، وَلَوْلَا عُقُوبَةُ الْجُنَاةِ وَالْمُفْسِدِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>