الْبَيْعَ، فَأَيْنَ ثُبُوتُ حَقِّ الِانْتِزَاعِ مِنْ الْمُشْتَرِي؟ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ ثُبُوتُ حَقِّ الِانْتِزَاعِ، فَهَذَا مُنْتَهَى إقْدَامِ الطَّائِفَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْوَسَطُ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ سِوَاهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، أَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَ الْجَارَيْنِ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْلَاكِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَقٌّ مُشْتَرَكٌ أَلْبَتَّةَ - بَلْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَمَيِّزًا مِلْكُهُ وَحُقُوقُ مِلْكِهِ - فَلَا شُفْعَةَ، وَهَذَا الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الشُّفْعَةِ: لِمَنْ هِيَ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا، فَإِذَا صُرِفَتْ الطُّرُقُ وَعُرِفَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَوْلُ الْقَاضِيَيْنِ سَوَّارِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُشَيْشٍ: أَهْلُ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ: إذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا كَانَ بَيْنَهُمْ الشُّفْعَةُ مِثْلُ دَارِنَا هَذِهِ، عَلَى مَعْنَى حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي يُحَدِّثُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، انْتَهَى.
فَأَهْلُ الْكُوفَةِ يُثْبِتُونَ شُفْعَةَ الْجِوَارِ مَعَ تَمَيُّزِ الطُّرُقِ وَالْحُقُوقِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسْقِطُونَهَا مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الطَّرِيقِ وَالْحُقُوقِ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يُوَافِقُونَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا صُرِفَتْ الطُّرُقُ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اشْتِرَاكٌ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْلَاكِ، وَيُوَافِقُونَ أَهْلَ الْكُوفَةِ إذَا اشْتَرَكَ الْجَارَانِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْلَاكِ كَالطَّرِيقِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ.
وَحَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ صَرِيحٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» فَأَثْبَتَ الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ مَعَ اتِّحَادِ الطَّرِيقِ، وَنَفَاهَا بِهِ مَعَ اخْتِلَافِ الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ: «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» فَمَفْهُومُ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَنْطُوقُ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ، فَأَحَدُهُمَا يُصَدِّقُ الْآخَرَ وَيُوَافِقُهُ، لَا يُعَارِضُهُ وَيُنَاقِضُهُ، وَجَابِرٌ رَوَى اللَّفْظَيْنِ؛ فَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ مِنْ إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ تَصْرِيفِ الطُّرُقِ وَتَمْيِيزِ الْحُدُودِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ بِمَفْهُومِهِ، وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِمَنْطُوقِهِ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سَائِرُ أَحَادِيثِ جَابِرٍ بِمَفْهُومِهَا، فَتَوَافَقَتْ السُّنَنُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَائْتَلَفَتْ، وَزَالَ عَنْهَا مَا يُظَنُّ بِهَا مِنْ التَّعَارُضِ، وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الْمَلِكِ؛ فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى الْأَخْذِ بِالْجِوَارِ حَالَةَ الشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّ الْبَيْتَيْنِ كَانَا فِي نَفْسِ دَارِ سَعْدٍ وَالطَّرِيقُ وَاحِدٌ بِلَا رَيْبٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute