قَلَّدَ الْعُلَمَاءَ الْمُهْتَدِينَ، بَلْ قَدْ أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدُهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] وَهَذَا أَمْرٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ بِتَقْلِيدِ مَنْ يَعْلَمُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ أَعْرَضَ عَمَّا أَنْزَلَهُ إلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّقْلِيدِ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى ذَمِّهِ وَتَحْرِيمِهِ، وَأَمَّا تَقْلِيدُ مَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ فِي اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَخَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ فَقَلَّدَ فِيهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَهَذَا مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَمَأْجُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِ التَّقْلِيدِ الْوَاجِبِ وَالسَّائِغِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] وَالتَّقْلِيدُ لَيْسَ بِعِلْمٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٣] وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: ٣] فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ الْمُنَزَّلِ خَاصَّةً، وَالْمُقَلِّدُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُنَزَّلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الدَّلَالَةُ فِي خِلَافِ قَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تَقْلِيدَهُ فِي خِلَافِهِ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ الْمُنَزَّلِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: ٥٩] فَمَنَعَنَا سُبْحَانَهُ مِنْ الرَّدِّ إلَى غَيْرِهِ وَغَيْرِ رَسُولِهِ، وَهَذَا يُبْطِلُ التَّقْلِيدَ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: ١٦] وَلَا وَلِيجَةَ أَعْظَمُ مِمَّنْ جَعَلَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ مُخْتَارًا عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ سَائِرِ الْأُمَّةِ، يُقَدِّمُهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَعْرِضُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلِهِ فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا قَبِلَهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِقَوْلِهِ وَمَا خَالَفَهُ مِنْهَا تَلَطَّفَ فِي رَدِّهِ وَتَطَلَّبَ لَهُ وُجُوهَ الْحِيَلِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ وَلِيجَةً فَلَا نَدْرِي مَا الْوَلِيجَةُ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب: ٦٦] {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: ٦٧] وَهَذَا نَصٌّ فِي بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا فِيهِ ذَمُّ مَنْ قَلَّدَ مَنْ أَضَلَّهُ السَّبِيلَ، أَمَّا مَنْ هُدَاهُ السَّبِيلَ فَأَيْنَ ذَمَّ اللَّهُ تَقْلِيدَهُ؟ قِيلَ: جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ فِي نَفْسِ السُّؤَالِ، فَإِنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ مُهْتَدِيًا حَتَّى يَتْبَعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ؛ فَهَذَا الْمُقَلِّدُ إنْ كَانَ يَعْرِفُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَلَيْسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute