مَنْ قَلَّدَهُ مُخْطِئًا فِي فَتْوَاهُ، ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ فِي تَقْلِيدِهِ لِلْعَالِمِ أَقْرَبُ مِنْ صَوَابِهِ فِي اجْتِهَادِهِ هُوَ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةً لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَا، فَإِنَّهُ إذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بِهَا أَمِينًا نَاصِحًا كَانَ صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبُ مِنْ اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ.
قَالَ أَصْحَابُ الْحُجَّةِ: عَجَبًا لَكُمْ مُعَاشِرَ الْمُقَلَّدِينَ الشَّاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ شَهَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مَعْدُودِينَ فِي زُمْرَةِ أَهْلِهِ، كَيْفَ أَبْطَلْتُمْ مَذْهَبَكُمْ بِنَفْسِ دَلِيلِكُمْ؟ فَمَا لِلْمُقَلِّدِ وَمَا لِلِاسْتِدْلَالِ؟ وَأَيْنَ مَنْصِبُ الْمُقَلِّدِ مِنْ مَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ؟ وَهَلْ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ إلَّا ثِيَابًا اسْتَعَرْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِ الْحُجَّةِ فَتَجَمَّلْتُمْ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ؟ وَكُنْتُمْ فِي ذَلِكَ مُتَشَبِّعِينَ بِمَا لَمْ تُعْطُوهُ، نَاطِقِينَ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا شَهِدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ لَمْ تُؤْتَوْهُ؟ وَذَلِكَ ثَوْبُ زُورٍ لَبِسْتُمُوهُ، وَمَنْصِبٌ لَسْتُمْ مِنْ أَهْلِهِ غَصَبْتُمُوهُ، فَأَخْبِرُونَا: هَلْ صِرْتُمْ إلَى التَّقْلِيدِ لِدَلِيلٍ قَادَكُمْ إلَيْهِ، وَبُرْهَانٍ دَلَّكُمْ عَلَيْهِ، فَنَزَلْتُمْ بِهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ أَقْرَبَ مَنْزِلٍ، وَكُنْتُمْ بِهِ عَنْ التَّقْلِيدِ بِمَعْزِلٍ، أَمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَهُ اتِّفَاقًا وَتَخْمِينًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ؟ وَلَيْسَ إلَى خُرُوجِكُمْ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ سَبِيلٌ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ التَّقْلِيدِ حَاكِمٌ، وَالرُّجُوعُ إلَى مَذْهَبِ الْحُجَّةِ مِنْهُ لَازِمٌ، وَنَحْنُ إنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِلِسَانِ الْحُجَّةِ قُلْت: لَسْنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ السَّبِيلِ، وَإِنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِحُكْمِ التَّقْلِيدِ فَلَا مَعْنَى لِمَا أَقَمْتُمُوهُ مِنْ الدَّلِيلِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ، وَكُلَّ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى حَقٍّ، حَاشَا فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ فَإِنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ ادَّعَوْهُ لَكَانُوا مُبْطِلِينَ، فَإِنَّهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا تِلْكَ الْأَقْوَالَ لِدَلِيلٍ قَادَهُمْ إلَيْهِ، وَبُرْهَانٌ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ مَحْضُ التَّقْلِيدِ، وَالْمُقَلِّدُ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ، وَلَا الْحَالِيَّ مِنْ الْعَاطِلِ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ أَئِمَّتَهُمْ نَهَوْهُمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فَعَصَوْهُمْ وَخَالَفُوهُمْ، وَقَالُوا: نَحْنُ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَقَدْ دَانُوا بِخِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى الْحُجَّةِ، وَنَهَوْا عَنْ التَّقْلِيدِ، وَأَوْصَوْهُمْ إذَا ظَهَرَ الدَّلِيلُ أَنْ يَتْرُكُوا أَقْوَالَهُمْ وَيَتَّبِعُوهُ، فَخَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالُوا: نَحْنُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، وَمَا أَتْبَاعُهُمْ إلَّا مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، وَاقْتَفَى آثَارَهُمْ فِي أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ.
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ فِي كُتُبِهِمْ بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَتَحْرِيمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَلَوْ اشْتَرَطَ الْإِمَامُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ شَرْطُهُ وَلَا تَوْلِيَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ التَّوْلِيَةَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِفْتَاءُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute