أُولُو الْأَمْرِ تَبَعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ طَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ اسْتِقْلَالًا، سَوَاءٌ كَانَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
[الثَّنَاءُ عَلَى التَّابِعِينَ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ تَابِعِينَ]
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَثْنَى عَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَتَقْلِيدُهُمْ هُوَ اتِّبَاعُهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَمَا أَصْدَقَ الْمُقَدَّمَةَ الْأُولَى، وَمَا أَكْذَبَ الثَّانِيَةَ، بَلْ الْآيَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ رَدًّا عَلَى فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ؛ فَإِنَّ اتِّبَاعَهُمْ هُوَ سُلُوكُ سَبِيلِهِمْ وَمِنْهَاجِهِمْ، وَقَدْ نَهَوْا عَنْ التَّقْلِيدِ وَكَوْنِ الرَّجُلِ إمَّعَةً، وَأَخْبَرُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ وَعَافَاهُمْ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ مَنْ يَرُدُّ النُّصُوصَ لِآرَاءِ الرِّجَالِ وَتَقْلِيدُهَا؛ فَهَذَا ضِدُّ مُتَابَعَتِهِمْ، وَهُوَ نَفْسُ مُخَالَفَتِهِمْ؛ فَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ حَقًّا هُمْ أُولُو الْعِلْمِ وَالْبَصَائِرِ الَّذِينَ لَا يُقَدِّمُونَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ رَأْيًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا مَعْقُولًا وَلَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ، وَلَا يَجْعَلُونَ مَذْهَبَ أَحَدٍ عِيَارًا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ؛ فَهَؤُلَاءِ أَتْبَاعُهُمْ حَقًّا، جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.
[مَنْ هُمْ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ]
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ لَوْ كَانُوا هُمْ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ هُمْ مُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَجَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أُولِي الْعِلْمِ لَكَانَ سَادَاتُ الْعُلَمَاءِ الدَّائِرُونَ مَعَ الْحُجَّةِ لَيْسُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَالْجُهَّالُ أَسْعَدُ بِأَتْبَاعِهِمْ مِنْهُمْ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ، بَلْ مَنْ خَالَفَ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِلْحُجَّةِ فَهُوَ الْمُتَّبِعُ لَهُ، دُونَ مَنْ أَخَذَ قَوْلَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ الَّذِينَ يُنْزِلُونَ آرَاءَهُمْ مَنْزِلَةَ النُّصُوصِ، بَلْ يَتْرُكُونَ لَهَا النُّصُوصَ؛ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا أَتْبَاعُهُمْ مَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَاقْتَفَى مِنْهَاجَهُمْ.
وَلَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي تَدْرِيسِهِ بِمَدْرَسَةِ ابْنِ الْحَنْبَلِيِّ وَهِيَ وَقْفٌ عَلَى الْحَنَابِلَةِ، وَالْمُجْتَهِدُ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: إنَّمَا أَتَنَاوَلُ مَا أَتَنَاوَلُهُ مِنْهَا عَلَى مَعْرِفَتِي بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، لَا عَلَى تَقْلِيدِي لَهُ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ دُونَ أَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يُقَلِّدُونَهُمْ، فَأَتْبَعُ النَّاسِ لِمَالِكٍ ابْنُ وَهْبٍ وَطَبَقَتُهُ مِمَّنْ يُحَكِّمُ الْحُجَّةَ وَيَنْقَادُ لِلدَّلِيلِ أَيْنَ كَانَ، وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَتْبَعُ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ لَهُ مَعَ كَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِمَا لَهُ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالْأَثْرَمُ وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute