للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحِينَ نَشَأَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ تَوَلَّدَ عَنْهَا مُعَارَضَةُ النُّصُوصِ بِالْإِجْمَاعِ الْمَجْهُولِ، وَانْفَتَحَ بَابُ دَعْوَاهُ، وَصَارَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخِلَافَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ إذَا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَالَ: هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ، وَعَابُوا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَهُ، وَكَذَّبُوا مَنْ ادَّعَاهُ؛ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ، لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، أَوْ لَمْ يَبْلُغْنَا.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: " أَجْمَعُوا؟ " إذَا سَمِعْتهمْ يَقُولُونَ: " أَجْمَعُوا " فَاتَّهِمْهُمْ، لَوْ قَالَ: " إنِّي لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا " كَانَ.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: هَذَا كَذِبٌ، مَا عِلْمُهُ أَنَّ النَّاسَ مُجْمِعُونَ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ: " مَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا " فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ: إجْمَاعُ النَّاسِ.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ، لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا.

[أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ يُقَدِّمُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ]

وَلَمْ يَزُلْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى تَقْدِيمِ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ، وَالسُّنَّةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَجَعْلِ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحُجَّةُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَاتِّفَاقُ الْأَئِمَّةُ.

وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِهِ مَعَ مَالِكٍ: وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ، الْأُولَى: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ: فَلَا يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، الرَّابِعَةُ: اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ، وَالْخَامِسَةُ: الْقِيَاسُ؛ فَقَدَّمَ النَّظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَى الْإِجْمَاعِ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ.

وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: الْعِلْمُ عِنْدَنَا مَا كَانَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابٍ نَاطِقٍ نَاسِخٍ غَيْرِ مَنْسُوخٍ، وَمَا صَحَّتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لَا مُعَارِضَ لَهُ، وَمَا جَاءَ عَنْ الْأَلِبَّاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا لَمْ يُخْرِجْ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ، فَإِذَا خَفِيَ ذَلِكَ وَلَمْ يُفْهَمْ فَعَنْ التَّابِعِينَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ التَّابِعِينَ فَعَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، مِثْلِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسُفْيَانَ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، ثُمَّ مَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ أَمْثَالِهِمْ فَعَنْ مِثْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَالْحُمَيْدِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنِ سَلَّامٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>