وَإِسْقَاطِهِ مَعًا إنْ كُلِّفْنَا بِتَقْلِيدِ كُلِّ عَالِمٍ، وَإِنْ كُلِّفْنَا بِتَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ فَالْأَعْلَمِ فَمَعْرِفَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ مِنْ الْأَحْكَامِ أَسْهَلُ بِكَثِيرٍ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَعْلَمِ الَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّقْلِيدِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ عَلَى الْعَالِمِ الرَّاسِخِ فَضْلًا عَنْ الْمُقَلِّدِ الَّذِي هُوَ كَالْأَعْمَى.
وَإِنْ كُلِّفْنَا بِتَقْلِيدِ الْبَعْضِ وَكَانَ جَعَلَ ذَلِكَ إلَى تَشَهِّينَا وَاخْتِيَارِنَا صَارَ دِينُ اللَّهِ تَبَعًا لِإِرَادَتِنَا وَاخْتِيَارِنَا وَشَهَوَاتِنَا، وَهُوَ عَيْنُ الْمُحَالِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ قَوْلِهِ وَتَلَقِّي الدِّينِ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ، وَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولُ اللَّهِ وَأَمِينُهُ عَلَى وَحَيِّهِ وَحُجَّتُهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ هَذَا الْمَنْصِبَ لِسِوَاهُ بَعْدَهُ أَبَدًا.
الثَّانِي: أَنَّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ صَلَاحَ الْأُمُورِ لَا ضَيَاعَهَا، وَبِإِهْمَالِهِ وَتَقْلِيدِ مَنْ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ إضَاعَتُهَا وَفَسَادُهَا كَمَا الْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا مَأْمُورٌ بِأَنْ يُصَدِّقَ الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَيُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ.
وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْأُمَّةِ إلَّا مَا فِيهِ حِفْظُ دِينِهَا وَدُنْيَاهَا وَصَلَاحُهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا، وَبِإِهْمَالِ ذَلِكَ تَضِيعُ مَصَالِحُهَا وَتَفْسُدُ أُمُورُهَا، فَمَا خَرَابُ الْعَالِمِ إلَّا بِالْجَهْلِ، وَلَا عِمَارَتُهُ إلَّا بِالْعِلْمِ، وَإِذَا ظَهَرَ الْعِلْمُ فِي بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ قَلَّ الشَّرُّ فِي أَهْلِهَا، وَإِذَا خَفَى الْعِلْمُ هُنَاكَ ظَهَرَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ. وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا فَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَلَوْلَا الْعِلْمُ كَانَ النَّاسُ كَالْبَهَائِمِ، وَقَالَ: النَّاسُ أَحْوَجُ إلَى الْعِلْمِ مِنْهُمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَالْعِلْمُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا لَا تَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إضَاعَةٌ لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ وَلَا تَعْطِيلٌ لِمَعَاشِهِمْ؛ فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَائِمِينَ بِمَصَالِحِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَعِمَارَةِ حُرُوثِهِمْ وَالْقِيَامِ عَلَى مَوَاشِيهِمْ وَالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ لِمَتَاجِرِهِمْ وَالصَّفْقِ بِالْأَسْوَاقِ، وَهُمْ أَهْدَى الْعُلَمَاءِ الَّذِي لَا يَشُقُّ فِي الْعِلْمِ غُبَارُهُمْ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْعِلْمَ النَّافِعَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ دُونَ مُقَدَّرَاتِ الْأَذْهَانِ وَمَسَائِلِ الْخَرْصِ وَالْأَلْغَازِ، وَذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْسَرُ شَيْءٍ عَلَى النُّفُوسِ تَحْصِيلُهُ وَحِفْظُهُ وَفَهْمُهُ، فَإِنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي يَسَّرَهُ لِلذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: ١٧] قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: قَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيْهِ؟ وَلَمْ يَقُلْ: فَتَضِيعُ عَلَيْهِ مَصَالِحُهُ وَتَتَعَطَّلُ مَعَايِشُهُ عَلَيْهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَهِيَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مَضْبُوطَةٌ مَحْفُوظَةٌ، وَأُصُولُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا نَحْوُ خَمْسِمِائَةِ حَدِيثٍ، وَفُرُشُهَا وَتَفَاصِيلُهَا نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ وَإِنَّمَا الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ وَالْمَشَقَّةِ مُقَدَّرَاتِ الْأَذْهَانِ وَأُغْلُوطَاتِ الْمَسَائِلِ وَالْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute