للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَفْتَى بِهِ، وَإِلَّا رَدَّهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ.

وَهَذِهِ أَقْوَالٌ - كَمَا تَرَى - قَدْ بَلَغَتْ مِنْ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ وَالتَّنَاقُضِ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِبْطَالِ حُجَجِهِ، وَالزُّهْدِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَتَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْهُمَا مَبْلَغَهَا، وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَيُصَدِّقَ قَوْلَ رَسُولِهِ.

إنَّهُ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ، وَلَنْ تُزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ يُبْعَثُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا، وَيَكْفِي فِي فَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنْ يُقَالَ لِأَرْبَابِهَا: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ مَنْ ذَكَرْتُمْ فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ اخْتِيَارُ تَقْلِيدِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ؟ وَكَيْفَ حَرَّمْتُمْ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَخْتَارَ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَبَحْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ اخْتِيَارَ قَوْلِ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ، وَأَوْجَبْتُمْ عَلَى الْأُمَّةِ تَقْلِيدَهُ، وَحَرَّمْتُمْ تَقْلِيدَ مَنْ سِوَاهُ، وَرَجَحْتُمُوهُ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ سِوَاهُ؟ فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَكُمْ هَذَا الِاخْتِيَارَ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ، وَحَرَّمَ اخْتِيَارَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ؟ وَيُقَالُ لَكُمْ: فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ الِاخْتِيَارُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ عِنْدَك وَلَا عِنْدَ غَيْرِك فَمِنْ أَيْنَ سَاغَ لَك وَأَنْتَ لَمْ تُولَدْ إلَّا بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ بِنَحْوِ سِتِّينَ سَنَةٍ أَنْ تَخْتَارَ قَوْلَ مَالِكٍ دُونَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَوْ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ؟ وَمُوجِبُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ أَشْهَبَ وَابْنَ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْبَغَ بْنَ الْفَرَجِ وَسَحْنُونَ بْنَ سَعِيدٍ وَأَحْمَدَ بْنَ الْمُعَدَّلِ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا إلَى انْسِلَاخِ ذِي الْحُجَّةِ مِنْ سَنَةِ مِائَتَيْنِ، فَلَمَّا اسْتَهَلَّ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ إحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَغَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ حَرُمَ عَلَيْهِمْ فِي الْوَقْتِ بِلَا مُهْلَةٍ مَا كَانَ مُطْلَقًا لَهُمْ مِنْ الِاخْتِيَارِ.

وَيُقَالُ لِلْآخَرِينَ: أَلَيْسَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَعَجَائِبِ الدُّنْيَا تَجْوِيزُكُمْ الِاخْتِيَارَ وَالِاجْتِهَادَ وَالْقَوْلَ فِي دِينِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ لِمَنْ ذَكَرْتُمْ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ، ثُمَّ لَا تُجِيزُونَ الِاخْتِيَارَ وَالِاجْتِهَادَ لِحُفَّاظِ الْإِسْلَامِ وَأَعْلَمِ الْأُمَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَفَتَاوَاهُمْ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ وَدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَنُظَرَائِهِمْ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِمْ بِالسُّنَنِ وَوُقُوفِهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَالسَّقِيمِ وَتَحَرِّيهِمْ فِي مَعْرِفَةِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَدِقَّةِ نَظَرِهِمْ وَلُطْفِ اسْتِخْرَاجِهِمْ لِلدَّلَائِلِ، وَمِنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالْقِيَاسِ فَقِيَاسُهُ مِنْ أَقْرَبِ الْقِيَاسِ إلَى الصَّوَابِ، وَأَبْعَدِهِ عَنْ الْفَسَادِ، وَأَقْرَبِهِ إلَى النُّصُوصِ، مَعَ شِدَّةِ وَرَعِهِمْ وَمَا مَنَحَهُمْ اللَّهُ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ وَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَائَهُمْ وَعَامَّتَهُمْ لَهُمْ، فَإِنْ احْتَجَّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِتَرْجِيحِ مَتْبُوعِهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرَاجِيحِ مِنْ تَقَدُّمِ زَمَانٍ أَوْ زُهْدٍ أَوْ وَرَعٍ أَوْ لِقَاءِ شُيُوخٍ وَأَئِمَّةٍ لَمْ يَلْقَهُمْ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ كَثْرَةِ أَتْبَاعٍ لَمْ يَكُونُوا لِغَيْرِهِ أَمْكَنَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ أَنْ يَبْدُوَا لِمَتْبُوعِهِمْ مِنْ التَّرْجِيحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>