الْمُفَارِقِينَ مُعْتَبَرًا؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، فَمَنْ كَانَتْ السُّنَّةُ مَعَهُ فَعَمَلُهُ هُوَ الْعَمَلُ الْمُعْتَبَرُ حَقًّا، فَكَيْفَ تُتْرَكُ السُّنَّةُ الْمَعْصُومَةُ لِعَمَلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ؟ ثُمَّ يُقَالُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ اسْتَمَرَّ عَمَلُ أَهْلِ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهَا الصَّحَابَةُ عَلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِمْ مَنْ صَارَ إلَيْهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُسْتَمِرُّ عَلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِمْ مَنْ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْعَمَلُ إنَّمَا اسْتَنَدَ إلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ الَّذِي أَدَّاهُ مَنْ بِالْمَدِينَةِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ دُونَ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ الَّذِي أَدَّاهُ غَيْرُهُمْ؟ هَذَا إذَا كَانَ النَّصُّ مَعَ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِمْ النَّصُّ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ يُعَارِضُهُ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ الْعَمَلِ؟ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُقَابِلُ النَّصَّ، بَلْ يُقَابَلُ الْعَمَلُ بِالْعَمَلِ، وَيَسْلَمُ النَّصُّ عَنْ الْمُعَارِضِ.
وَأَيْضًا فَنَقُولُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لَهَا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكُونُ عِلْمُهَا عِنْدَ مَنْ فَارَقَهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ " لَا يَجُوزُ " أَبْطَلْتُمْ أَكْثَرَ السُّنَنِ الَّتِي لَمْ يَرْوِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَهْلِ بَيْتِ عَلِيٍّ عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ مُعَاذٍ عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ أَبِي مُوسَى عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَمُعَاوِيَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَضْعَافِ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ.
وَإِنْ قُلْتُمْ " يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ بَقِيَ فِي الْمَدِينَةِ بَعْضُ السُّنَنِ وَيَكُونُ عِلْمُهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ " فَكَيْفَ تُتْرَكُ السُّنَنُ لِعَمَلِ مَنْ قَدْ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تَخْفَى عَلَيْهِمْ؟ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْأَعْرَابِ بِسُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمِلَ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهَا بِالْمَدِينَةِ، كَمَا كَتَبَ إلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» فَقَضَى بِهِ عُمَرُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَوْ جَاءَ مَنْ رَوَاهَا إلَى الْمَدِينَةِ وَعَمِلَ بِهَا لَمْ يَكُنْ عَمَلُ مَنْ خَالَفَهُ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ؟
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ تَبَعًا لِلْمَدِينَةِ فِيمَا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ مُخَالَفَتُهُمْ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ عَمَلَهُمْ إذَا قُدِّمَ عَلَى السُّنَّةِ فَلَأَنْ يُقَدَّمَ عَلَى عَمَلِ غَيْرِهِمْ أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ إنَّ عَمَلَهُمْ نَفْسَهُ سُنَّةٌ لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُمْ، وَلَكِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute