للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَيْفَ لَا وَهُوَ أَجَلُّ السُّجُودِ وَأَفْرَضُهُ؟

وَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ هُوَ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: ٦٢] وَفِي قَوْلِهِ: {كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: ١٩] وَقَدْ قَالَ قَبْلُ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: ٩] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: ١٠] ثُمَّ قَالَ: {كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: ١٩] فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَفْعَلَ هَذَا الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ عَدُوُّ اللَّهِ، فَإِرَادَةُ سُجُودِ الصَّلَاةِ بِآيَةِ السَّجْدَةِ لَا تَمْنَعُ كَوْنَهَا سَجْدَةً، بَلْ تُؤَكِّدُهَا وَتُقَوِّيهَا.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَوَاضِعَ السَّجَدَاتِ فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ: إخْبَارٌ، وَأَمْرٌ؛ فَالْإِخْبَارُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ سُجُودِ مَخْلُوقَاتِهِ لَهُ عُمُومًا أَوْ خُصُوصًا، فَسُنَّ لِلتَّالِي وَالسَّامِعِ وُجُوبًا أَوْ اسْتِحْبَابًا أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ أَوْ سَمَاعِهَا، وَآيَاتُ الْأَوَامِرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: ٦٢] : مُقْتَضِيًا لِلسُّجُودِ دُونَ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: ٧٧] فَالسَّاجِدُ إمَّا مُتَشَبِّهٌ بِمَنْ أُخْبِرَ عَنْهُ، أَوْ مُمْتَثِلٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ فِي آخِر الْحَجِّ كَمَا يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ فِي أَوَّلِهَا؛ فَلَمَّا سَوَّتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا سَوَّى الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَالِاعْتِبَارُ الْحَقُّ بَيْنَهُمَا.

وَهَذَا السُّجُودُ شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عُبُودِيَّةً عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَاسْتِمَاعِهَا، وَقُرْبَةً إلَيْهِ، وَخُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ، وَتَذَلُّلًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاقْتِرَانُ الرُّكُوعِ بِبَعْضِ آيَاتِهِ مِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ، وَيُقَوِّيه، لَا يُضْعِفُهُ وَيُوهِيه، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: ٤٣] فَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ لِأَنَّهُ خَبَرٌ خَاصٌّ عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا أَنْ تُدِيمَ الْعِبَادَةَ لِرَبِّهَا بِالْقُنُوتِ وَتُصَلِّيَ لَهُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ فَهُوَ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهَا ذَلِكَ، وَإِعْلَامٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ ذَلِكَ لِمَرْيَمَ.

فَسِيَاقُ ذَلِكَ غَيْرُ سِيَاقِ آيَاتِ السَّجَدَاتِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي قُدَامَةَ - وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ - قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هُوَ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا انْفَرَدَ، قُلْت: وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِنْكَارِ؛ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَهِدَ سُجُودَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُفَصَّلِ فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: ١] وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: ١] . ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَسَجَدَ مَعَهُ، حَتَّى لَوْ صَحَّ خَبَرُ أَبِي قُدَامَةَ هَذَا لَوَجَبَ تَقْدِيمُ خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ فَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>