لِيَتَوَصَّلَ إلَى حَقِّهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ هُنَاكَ يَتَوَصَّلُ إلَى اسْتِيفَائِهِ بِالْأَدَاءِ؛ فَافْتَرَقَا؛ وَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَا تَلْزَمُنَا، وَأَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا مِنْ دَيْنٍ أَوْ نَفَقَةٍ عَلَى قَرِيبٍ أَوْ زَوْجَةٍ فَهُوَ إمَّا فُضُولِيٌّ وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَفُوتَ عَلَيْهِ مَا فَوَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مُتَفَضِّلٌ فَحَوَالَتُهُ عَلَى اللَّهِ دُونَ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ، وَزَادَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَقَالَتْ: لَمَّا ضَمِنَ لَهُ الْمُؤَجِّرُ تَحْصِيلَ مَنَافِعِ الْجِمَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءَ تِلْكَ الْمَنَافِعِ إلَّا بِالْعَلَفِ؛ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ لِتِلْكَ الْمَنَافِعِ إذْنُهُ لَهُ فِي تَحْصِيلِهَا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ضِمْنًا وَتَبَعًا، فَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِحُكْمِ ضَمَانِهِ عَنْ نَفْسِهِ لَا بِحُكْمِ ضَمَانِ الْغَيْرِ عَنْهُ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ وَالْمُسَاقِيَ قَدْ عَلِمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحَيِّ مِنْ قِوَامٍ، وَلَا بُدَّ لِلنَّخِيلِ مِنْ سَقْيٍ وَعَمَلٍ عَلَيْهَا؛ فَكَأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْإِذْنُ فِيهَا فِي الْإِنْفَاقِ عُرْفًا، وَالْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ يَجْرِي مَجْرَى الْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ، وَشَاهِدُهُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمَسَائِلِ؛ فَيُقَالُ: هَذَا مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ فِي مَسْأَلَةِ عَلَفِ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّهْنِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلرُّجُوعِ بِمَا غَرِمَهُ، وَهَذَا نِصْفُ الْمَسَافَةِ، وَبَقِيَ نِصْفُهَا الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا بِرُكُوبِهِ وَشُرْبِهِ، وَهِيَ أَسْهَلُ الْمَسَافَتَيْنِ وَأَقْرَبُهُمَا؛ إذْ غَايَتُهَا تَسْلِيطُ الشَّارِعِ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَصْلَحَةِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْحَيَوَانِ، وَهِيَ أَوْلَى مِنْ تَسْلِيطِ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ عَنْ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ لِتَكْمِيلِ مِلْكِهِ وَانْفِرَادِهِ بِهِ، وَهِيَ أَوْلَى مِنْ الْمُعَاوَضَةِ فِي مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْحَقِّ فِيهَا لَيْسَ ثَابِتًا، وَالْآخِذُ ظَالِمٌ فِي الظَّاهِرِ، وَلِهَذَا مَنَعَهُ النَّبِيُّ مِنْ الْأَخْذِ وَسَمَّاهُ خَائِنًا بِقَوْلِهِ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» وَأَمَّا هَهُنَا فَسَبَبُ الْحَقِّ ظَاهِرٌ، وَقَدْ أَذِنَ فِي الْمُعَاوَضَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي فِيهَا، فَكَيْفَ تُمْنَعُ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةُ الَّتِي سَبَبُ الْحَقِّ فِيهَا ظَاهِرٌ وَقَدْ أَذِنَ فِيهَا الشَّارِعُ وَتَجُوزُ تِلْكَ الْمُعَاوَضَةُ الَّتِي سَبَبُ الْحَقِّ فِيهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ وَقَدْ مَنَعَ مِنْهَا الشَّارِعُ؟ فَلَا نَصَّ وَلَا قِيَاسَ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا أَنَّهُ يَرْجِع عَلَيْهِ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: ٦٠] وَلَيْسَ مِنْ جَزَاءِ هَذَا الْمُحْسِنِ بِتَخْلِيصِ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ بِأَدَاءِ دَيْنِهِ وَفَكِّ أَسْرِهِ مِنْهُ وَحَلِّ وَثَاقِهِ أَنْ يُضَيِّعَ عَلَيْهِ مَعْرُوفَهُ وَإِحْسَانَهُ، وَأَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ مِنْهُ بِإِضَاعَةِ مَالِهِ وَمُكَافَأَتُهُ عَلَيْهِ بِالْإِسَاءَةِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ» وَأَيُّ مَعْرُوفٍ فَوْقَ مَعْرُوفِ هَذَا الَّذِي افْتَكَّ أَخَاهُ مِنْ أَسْرِ الدَّيْنِ؟ وَأَيُّ مُكَافَأَةٍ أَقْبَحُ مِنْ إضَاعَةِ مَالِهِ عَلَيْهِ وَذَهَابِهِ؟ وَإِذَا كَانَتْ الْهَدِيَّةُ الَّتِي هِيَ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ قَدْ شُرِعَتْ الْمُكَافَأَةُ عَلَيْهَا وَهِيَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ يُشْرَعُ جَوَازُ تَرْكِ الْمُكَافَآتِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَعْرُوفِ؟ وَقَدْ عَقَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute