فَاعْتَبِرْهُ، وَمَهْمَا سَقَطَ فَأَلْغِهِ، وَلَا تَجْمُدْ عَلَى الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ طُولَ عُمْرِك، بَلْ إذَا جَاءَك رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ إقْلِيمِك يَسْتَفْتِيك فَلَا تُجْرِهِ عَلَى عُرْفِ بَلَدِك، وَسَلْهُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ فَأَجْرِهِ عَلَيْهِ وَأَفْتِهِ بِهِ، دُونَ عُرْفِ بَلَدِك وَالْمَذْكُورِ فِي كُتُبِك، قَالُوا: فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْوَاضِحُ، وَالْجُمُودُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِدِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ، قَالُوا: وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَخْرُجُ أَيْمَانُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصِيَغُ الصَّرَائِحِ وَالْكِنَايَاتِ؛ فَقَدْ يَصِيرُ الصَّرِيحُ كِنَايَةً يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، وَقَدْ تَصِيرُ الْكِنَايَةُ صَرِيحًا تَسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ، قَالُوا: وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَإِذَا قَالَ " أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي " خَرَجَ مَا يَلْزَمُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الْحَلِفِ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُعَاصِرَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَأَيُّ شَيْءٍ جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مُلُوكِ الْوَقْتِ فِي التَّحْلِيفِ بِهِ فِي بَيْعَتِهِمْ وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ بِحَيْثُ صَارَ عُرْفًا مُتَبَادِرًا إلَى الذِّهْنِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اُعْتُبِرَتْ نِيَّتُهُ أَوْ بِسَاطُ يَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، انْتَهَى.
وَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ، وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ جِنَايَةِ مَنْ طَبَّبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ بِمَا فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ، بَلْ هَذَا الطَّبِيبُ الْجَاهِلُ وَهَذَا الْمُفْتِي الْجَاهِلُ أَضَرُّ مَا عَلَى أَدْيَانِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَلَمْ يَكُنْ الْحَلِفُ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ مُعْتَادًا عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ الطَّيِّبِ، بَلْ هِيَ مِنْ الْأَيْمَانِ الْحَادِثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْجَهَلَةُ الْأُوَلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّهَا مِنْ الْأَيْمَانِ اللَّاغِيَةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، أَفْتَى بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْ مُتَأَخِّرِي مَنْ أَفْتَى بِهَا تَاجُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأُرْمَوِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ الْحَاصِلِ قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ فِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ: سَأَلَهُ عَنْهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا، فَكَتَبَ لَهُ بِخَطِّهِ تَحْتَ الِاسْتِفْتَاءِ: هَذِهِ يَمِينٌ لَاغِيَةٌ، لَا يَلْزَمُ فِيهَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، وَكَتَبَ مُحَمَّدٌ الْأُرْمَوِيُّ، قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: وَقَفْت عَلَى ذَلِكَ بِخَطِّهِ، وَثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ خَطُّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: لَا يَلْزَمُ فِيهَا شَيْءٌ سِوَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْيَمِينِ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَمَا عَدَاهُ الْتِزَامَاتٌ لَا أَيْمَانٌ.
قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ فِيهَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ اخْتَلَفُوا: هَلْ تَتَعَدَّدُ فِيهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِنَاءً عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا إنَّمَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ؟ وَقَدْ كَانَ أَبُو عُمَرَ يُفْتِي بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ، وَعَابَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
قَالَ: وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَأَى أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute