للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْهُ: هَلْ يُؤْخَذُ بِالسِّرِّ أَوْ بِالْعَلَانِيَةِ؟ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا اضْطَرَبَتْ فِيهَا أَقْوَالُ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ لِعَدَمِ إحَاطَتِهِمْ بِمَقَاصِدِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَشْفِ غِطَائِهَا، وَلَهَا فِي الْأَصْلِ صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ يَعْقِدُوهُ فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ مَثَلًا، وَقَدْ اتَّفَقُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ أَلْفٌ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ سُمْعَةٌ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِدُوهُ فِي الْعَلَانِيَةِ بِالْأَقَلِّ؛ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْقَاضِي وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ تَصَادَقُوا عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ مِنْ جِنْسِ مَهْرِ السِّرِّ أَوْ مِنْ جِنْسِ غَيْرِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، قَالُوا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ.

قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ بدينا فِي الرَّجُلِ يُصَدِّقُ صَدَاقًا فِي السِّرِّ وَفِي الْعَلَانِيَةِ شَيْئًا آخَرَ؛ يُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَارِثِ: إذَا تَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى شَيْءٍ وَأَسَرَّ غَيْرَ ذَلِكَ أَخَذْنَا بِالْعَلَانِيَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ فِي السِّرِّ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ فِي رَجُلٍ أَصْدَقَ صَدَاقًا سِرًّا وَصَدَاقًا عَلَانِيَةً: يُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ إذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِهِ، قِيلَ لَهُ: فَقَدْ أَشْهَدَ شُهُودًا فِي السِّرِّ بِغَيْرِهِ؟ قَالَ: وَإِنْ، أَلَيْسَ قَدْ أَقَرَّ بِهَذَا أَيْضًا عِنْدَ شُهُودٍ؟ يُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ.

قَالَ شَيْخُنَا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ " أَقَرَّ بِهِ " أَيْ رَضِيَ بِهِ وَالْتَزَمَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: ٨١] وَهَذَا يَعُمُّ التَّسْمِيَةَ فِي الْعَقْدِ وَالِاعْتِرَافِ بَعْدَهُ، وَيُقَالُ: أَقَرَّ بِالْجِزْيَةِ، وَأَقَرَّ لِلسُّلْطَانِ بِالطَّاعَةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي الرَّجُلِ يُعْلِنُ مَهْرًا وَيُخْفِي آخَرَ؛ آخُذُ بِمَا يُعْلِنُ؛ لِأَنَّ الْعَلَانِيَةَ قَدْ أَشْهَدَ

[بِهَا] عَلَى نَفْسِهِ، وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ بِمَا كَانَ أَسَرَّهُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي السِّرِّ بِمَهْرٍ وَأَعْلَنُوا مَهْرًا آخَرَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا، وَأَمَّا هُوَ فَيُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ.

قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: فَقَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِمَهْرِ الْعَلَانِيَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا بِمَا أَسَرُّوا، عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ؛ لِئَلَّا يَحْصُلَ مِنْهُمْ غُرُورٌ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَأَبِي قِلَابَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَقَدْ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِمَهْرِ السِّرِّ، فَقِيلَ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ: إذَا عَلِمَ الشُّهُودُ أَنَّ الْمَهْرَ الَّذِي يُظْهِرُهُ سُمْعَةٌ وَأَنَّ أَصْلَ الْمَهْرِ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَزَوَّجَ وَأَعْلَنَ الَّذِي قَالَ فَالْمَهْرُ هُوَ السِّرُّ، وَالسُّمْعَةُ بَاطِلَةٌ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَإِسْحَاقَ، وَعَنْ شُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ كَالْقَوْلَيْنِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْمَهْرُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا حَكَاهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالسِّرِّ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَلَانِيَةَ تَلْجِئَةٌ، فَقَالَ: إذَا كَانَ رَجُلٌ قَدْ أَظْهَرَ صَدَاقًا

<<  <  ج: ص:  >  >>