الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى أَنْ يَتَبَايَعَا شَيْئًا بِثَمَنٍ ذَكَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ تَلْجِئَةً لَا حَقِيقَةً لَهُ تَخَلُّصًا مِنْ ظَالِمٍ يُرِيدُ أَخْذَهُ؛ فَهَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ؛ وَإِنْ لَمْ يَقُولَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ " قَدْ تَبَايَعْنَاهُ تَلْجِئَةً " قَالَ الْقَاضِي: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ: لَمْ يَصِحَّ هَذَا النِّكَاحُ، وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ عِنَبًا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا، قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إنَّهُ إذَا أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَمَاتَ وَهِيَ وَارِثَةٌ فَهَذِهِ قَدْ أَقَرَّ لَهَا وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، يَجُوزُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَلْجِئَةً فَيُرَدُّ، وَنَحْوَ هَذَا نَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَالْمَرْوَزِيُّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ تَلْجِئَةً حَتَّى يَقُولَا فِي الْعَقْدِ " قَدْ تَبَايَعْنَا هَذَا الْعَقْدَ تَلْجِئَةً " وَمَأْخَذُ مَنْ أَبْطَلَهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا الْعَقْدَ حَقِيقَةً، وَالْقَصْدُ مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّتِهِ، وَمَأْخَذُ مَنْ يُصَحِّحُهُ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَقْدِ، وَالْمُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ الشَّرْطُ الْمُقَارِنُ.
وَالْأَوَّلُونَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَيَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُقَارِنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّمَا ذَلِكَ فِي الشَّرْطِ الزَّائِدِ عَلَى الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الرَّافِعِ لَهُ فَإِنَّ الشَّارِطَ هُنَا يَجْعَلُ الْعَقْدَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، وَهُنَاكَ هُوَ مَقْصُودٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَنْ شَرْطٍ مُقَارِنٍ.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُظْهِرَا نِكَاحًا تَلْجِئَةً لَا حَقِيقَةً لَهُ؛ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ: إنَّهُ صَحِيحٌ كَنِكَاحِ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْعَقْدِ، بَلْ هَازِلٌ بِهِ، وَنِكَاحُ الْهَازِلِ صَحِيحٌ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ رَفْعَ مُوجَبِهِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا أَوْ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ أَوْ أَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ - صَحَّ الْعَقْدُ دُونَ الشَّرْطِ؛ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى التَّلْجِئَةِ حَقِيقَتُهُ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَعْقِدَا عَقْدًا لَا يَقْتَضِي مُوجَبَهُ، وَهَذَا لَا يُبْطِلُهُ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَيَتَخَرَّجُ فِي نِكَاحِ التَّلْجِئَةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ الْمَوْجُودَ قَبْلَ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ فِي أَظْهَرِ الطَّرِيقَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، وَلَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ نِكَاحُ تَلْجِئَةٍ لَا حَقِيقَةٍ لَكَانَ نِكَاحًا بَاطِلًا، وَإِنْ قِيلَ إنَّ فِيهِ خِلَافًا فَإِنَّ أَسْوَأَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ شَرَطَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ، وَهَذَا الشَّرْطُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ.
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَقْدُ تَحْلِيلٍ، لَا نِكَاحُ رَغْبَةٍ، وَأَنَّهُ مَتَى دَخَلَ بِهَا طَلَّقَهَا أَوْ فَهِيَ طَالِقٌ، أَوْ أَنَّهَا مَتَى اعْتَرَفَتْ بِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثُمَّ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ نِكَاحُ تَحْلِيلٍ لَا نِكَاحُ رَغْبَةٍ، فَهَذَا مُحَرَّمٌ بَاطِلٌ، لَا تَحِلُّ بِهِ الزَّوْجَةُ لِلْمُطَلِّقِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ اللَّعْنَةِ، مَعَ تَضَمُّنِ زِيَادَةِ الْخِدَاعِ كَمَا سَمَّاهُ السَّلَفُ بِذَلِكَ، وَجَعَلُوا فَاعِلَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute