قَوَدَ فِيهَا، وَالنِّكَاحِ، وَالرَّجْعَةِ، هَلْ يُقْبَلُ فِيهَا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ رَجُلَيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، فَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّانِي قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يُقْبَلُ إلَّا رَجُلَانِ قَالُوا: إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ، دُونَ الرَّجْعَةِ، وَالْوَصِيَّةِ وَمَا مَعَهُمَا، فَقَالَ لَهُمْ الْآخَرُونَ: وَلَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ وَصْفَ الْإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ إلَّا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقُلْتُمْ: نَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ إمَّا بَيَانًا وَإِمَّا قِيَاسًا، وَقَالُوا أَيْضًا: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: ٢] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: ١٠٦] بِخِلَافِ آيَةِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: ٢٨٢] وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ الْآخَرِينَ لَمَّا لَمْ يَقُلْ رَجُلَانِ لَمْ يَقُلْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: اللَّفْظُ مُذَكَّرٌ؛ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ.
قِيلَ: قَدْ اسْتَقَرَّ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ بِصِيغَةِ الْمُذَكَّرِينَ إذَا أُطْلِقَتْ وَلَمْ تَقْتَرِنْ بِالْمُؤَنَّثِ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ؛ لِأَنَّهُ يُغَلِّبُ الْمُذَكَّرَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: ١١] وَقَوْلُهُ: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: ٢٨٢] وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: ١٨٣] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: ٢] يَتَنَاوَلُ الصِّنْفَيْنِ، لَكِنْ قَدْ اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ شَهَادَةِ الرَّجُلِ، فَالْمَرْأَتَانِ فِي الشَّهَادَةِ كَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ فَإِنَّ حُضُورَ النِّسَاءِ عِنْدَ الرَّجْعَةِ أَيْسَرُ مِنْ حُضُورِهِنَّ عِنْدَ كِتَابَةِ الْوَثَائِقِ بِالدُّيُونِ، وَكَذَلِكَ حُضُورُهُنَّ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ وَقْتَ الْمَوْتِ، فَإِذَا جَوَّزَ الشَّارِعُ اسْتِشْهَادَ النِّسَاءِ فِي وَثَائِقِ الدُّيُونِ الَّتِي تَكْتُبُهَا الرِّجَالُ مَعَ أَنَّهَا إنَّمَا تُكْتَبُ غَالِبًا فِي مَجَامِعِ الرِّجَالِ فَلَأَنْ يَسُوغَ ذَلِكَ فِيمَا تَشْهَدُهُ النِّسَاءُ كَثِيرًا كَالْوَصِيَّةِ وَالرَّجْعَةِ أَوْلَى.
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ قَدْ شَرَعَ فِي الْوَصِيَّةِ اسْتِشْهَادَ آخَرِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ اسْتِشْهَادُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ بِطَرِيقِ الْأُولَى وَالْأَحْرَى، بِخِلَافِ الدُّيُونِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِاسْتِشْهَادِ آخَرِينَ مِنْ غَيْرِنَا؛ إذْ كَانَتْ مُدَايَنَةَ الْمُسْلِمِينَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ وَشُهُودُهُمْ حَاضِرُونَ، وَالْوَصِيَّةُ فِي السَّفَرِ قَدْ لَا يَشْهَدُهَا إلَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ قَدْ لَا يَشْهَدُهُ إلَّا النِّسَاءُ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا أَمَرَ فِي الرَّجْعَةِ بِاسْتِشْهَادِ ذَوِي عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَشْهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالرَّجْعَةِ وَهُوَ الزَّوْجُ لِئَلَّا يَكْتُمَهَا، فَأَمَرَ بِأَنْ يَسْتَشْهِدَ أَكْمَلَ النِّصَابِ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يُشْهِدْ هَذَا الْأَكْمَلَ أَنْ لَا يُقْبَلَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ النِّصَابِ الْأَنْقَصِ، فَإِنَّ طُرُقَ الْحُكْمِ أَعَمُّ مِنْ طُرُقِ حِفْظِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute