ثُمَّ بَرِئَ، فَجَلَسَ يُكَحِّلُهُمْ فَرَمِدَ مِرَارًا، قَالَ: فَعَلِمْت أَنَّ الطَّبِيعَةَ تَنْتَقِلُ، وَأَنَّهُ مِنْ كَثْرَةِ مَا يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ فِي أَعْيُنِ الرُّمْدِ نَقَلَتْ الطَّبِيعَةُ الرَّمَدَ إلَى عَيْنَيْهِ، وَهَذَا لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ نَوْعِ اسْتِعْدَادٍ، وَقَدْ جُبِلَتْ الطَّبِيعَةُ وَالنَّفْسُ عَلَى التَّشَبُّهِ وَالْمُحَاكَاةِ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَنْحَنِيَ لِلرَّجُلِ إذَا لَقِيَهُ» كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالسُّنَّةِ، بَلْ يُبَالِغُونَ إلَى أَقْصَى حَدِّ الِانْحِنَاءِ مُبَالَغَةً فِي خِلَافِ السُّنَّةِ جَهْلًا حَتَّى يَصِيرَ أَحَدُهُمْ بِصُورَةِ الرَّاكِعِ لِأَخِيهِ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ كَمَا يَفْعَل إخْوَانُهُمْ مِنْ السُّجُودِ بَيْنَ يَدَيْ شُيُوخِهِمْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ؛ فَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا مِنْ الصَّلَاةِ سُجُودَهَا، وَأُولَئِكَ رُكُوعَهَا، وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ قِيَامَهَا يَقُومُ عَلَيْهِمْ النَّاسُ وَهُمْ قُعُودٌ كَمَا يَقُومُونَ فِي الصَّلَاةِ، فَتَقَاسَمَتْ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ أَجْزَاءَ الصَّلَاةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ انْحِنَاءِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ، كَمَا نَهَى عَنْ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَكَمَا نَهَاهُمْ أَنْ يَقُومُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى رَأْسِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَنَّ قِيَامَهُمْ عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَا الظَّنُّ إذَا كَانَ الْقِيَامُ تَعْظِيمًا لِلْمَخْلُوقِ وَعُبُودِيَّةً لَهُ؟ فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
الْوَجْهُ التِّسْعُونَ: أَنَّهُ حَرَّمَ التَّفْرِيقَ فِي الصَّرْفِ وَبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِمِثْلِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى التَّأْجِيلِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ بَابِ الرِّبَا، فَحَمَاهُمْ مِنْ قُرْبَانِهِ بِاشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِيهِمْ التَّمَاثُلَ، وَأَنْ لَا يَزِيدَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إذَا كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَا يُبَاعَ مُدٌّ جَيِّدٌ بِمُدَّيْنِ رَدِيئَيْنِ وَإِنْ كَانَا يُسَاوِيَانِهِ، سَدًّا لِذَرِيعَةِ رِبَا النَّسَاءِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الرِّبَا، وَأَنَّهُ إذَا مَنَعَهُمْ مِنْ الزِّيَادَةِ مَعَ الْحُلُولِ حَيْثُ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ جَوْدَةٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ سِكَّةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَمَنْعُهُمْ مِنْهَا حَيْثُ لَا مُقَابِلَ لَهَا إلَّا مُجَرَّدُ الْأَجَلِ أَوْلَى؛ فَهَذِهِ هِيَ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَتَبَيَّنُ لِي حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّارِعُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ بِعَيْنِهَا؛ فَإِنَّهُ حَرَّمَهُ سَدًّا لِذَرِيعَةِ رِبَا النَّسَاءِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ: «فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّمَا» وَالرِّمَا هُوَ الرِّبَا، فَتَحْرِيمُ الرِّبَا نَوْعَانِ: نَوْعٌ حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَهُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَنَوْعٌ حُرِّمَ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ وَسَدًّا لِلذَّرَائِعِ؛ فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ وَكَمَالُ شَرِيعَتِهِ الْبَاهِرَةِ فِي تَحْرِيمِ النَّوْعَيْنِ، وَيَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الذَّرَائِعَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِسَدِّهَا أَنْ يُجْعَلَ تَحْرِيمُ رِبَا الْفَضْلِ تَعَبُّدًا مَحْضًا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ.
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ: أَنَّهُ أَبْطَلَ أَنْوَاعًا مِنْ النِّكَاحِ الَّذِي يَتَرَاضَى بِهِ الزَّوْجَانِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الزِّنَا؛ فَمِنْهَا النِّكَاحُ بِلَا وَلِيٍّ؛ فَإِنَّهُ أَبْطَلَهُ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الزِّنَا؛ فَإِنَّ الزَّانِيَ لَا يَعْجَزُ أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute