فَصْلٌ.
وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فَيَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ، غَلَطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِمَا يُحْفَظُ بِهِ الْحَقُّ فَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى يَمِينِ صَاحِبِهِ - وَهُوَ الْكِتَابُ وَالشُّهُودُ - لِئَلَّا يَجْحَدَ الْحَقَّ أَوْ يَنْسَى، وَيَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إلَى تَذْكِيرِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إمَّا جُحُودًا وَإِمَّا نِسْيَانًا، وَلَا يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي أَمَرَهُ أَنْ يَحْفَظَ حَقَّهُ بِهَا.
وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْعَدَدِ فِي شُهُودِ الزِّنَا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ فِيهِ بِالسَّتْرِ، وَلِهَذَا غَلَّظَ فِيهِ النِّصَابَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَقٌّ يَضِيعُ، وَإِنَّمَا حَدٌّ وَعُقُوبَةٌ، وَالْعُقُوبَاتُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ الَّتِي تَضِيعُ إذَا لَمْ يُقْبَلْ فِيهَا قَوْلُ الصَّادِقِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، فَإِنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ مِنْ أَضْعَفِ الْبَيِّنَاتِ، وَلِهَذَا يَدْفَعُ بِالنُّكُولِ تَارَةً وَبِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَدَلَالَةِ الْحَالِ، وَهُوَ نَظِيرُ رَفْعِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاسِ فَيُرْفَعُ بِأَضْعَفِ الْأَدِلَّةِ، فَهَكَذَا فِي الْأَحْكَامِ يُرْفَعُ بِأَدْنَى النِّصَابِ، وَلِهَذَا قَدَّمَ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي أَخْبَارِ الدِّيَانَةِ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ مَعَ أَنَّهُ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ، فَكَيْفَ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ فَمَا هُوَ دُونَهُ؟ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا أَنَّ اللُّقَطَةَ إذَا وَصَفَهَا وَاصِفٌ صِفَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ دُفِعَتْ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْوَصْفِ، فَقَامَ وَصْفُهُ لَهَا مَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ، بَلْ وَصْفُهُ لَهَا بَيِّنَةٌ تُبَيِّنُ صِدْقَهُ وَصِحَّةَ دَعْوَاهُ؛ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَوَاضِعَ الْحَاجَاتِ يُقْبَلُ فِيهَا مِنْ الشَّهَادَاتِ مَا لَا يُقْبَلُ فِي غَيْرِهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْعَمَلِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى نَظِيرِهِ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ كَقَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْحَمَّامَاتِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي تَنْفَرِدُ النِّسَاءُ بِالْحُضُورِ فِيهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَبُولَ شَهَادَتَيْنِ هُنَا أَوْلَى مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ بِشَهَادَةِ الصَّبِيَّانِ عَلَى تَجَارُحِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِنَّ الرِّجَالَ لَا يَحْضُرُونَ مَعَهُمْ فِي لَعِبِهِمْ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ لَضَاعَتْ الْحُقُوقُ وَتَعَطَّلَتْ وَأُهْمِلَتْ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ أَوْ الْقَطْعِ بِصِدْقِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا إذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إلَى بُيُوتِهِمْ وَتَوَاطُؤَا عَلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَفَرَّقُوا وَقْتَ الْأَدَاءِ وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ، فَإِنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ حِينَئِذٍ مِنْ شَهَادَتِهِمْ أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ الظَّنِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute