للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَنَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَيْدَ إلَى نَفْسِهِ كَمَا نَسَبَهُ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق: ١٥] {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: ١٦] ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: ٥٠] ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: ٣٠] .

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ مَكْرًا وَكَيْدًا وَاسْتِهْزَاءً وَخِدَاعًا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ وَمَجَازِ الْمُقَابَلَةِ نَحْوُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: ٤٠] ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤] وَقِيلَ وَهُوَ أَصْوَبُ: بَلْ تَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ حَقِيقَةً عَلَى بَابِهِ؛ فَإِنَّ الْمَكْرَ إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقٍ خَفِيٍّ، وَكَذَلِكَ الْكَيْدُ وَالْمُخَادَعَةُ، وَلَكِنَّهُ نَوْعَانِ: قَبِيحٌ وَهُوَ إيصَالُ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَحَسَنٌ وَهُوَ إيصَالُهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ عُقُوبَةً لَهُ؛ فَالْأَوَّلُ مَذْمُومٌ وَالثَّانِي مَمْدُوحٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى إنَّمَا يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ عَدْلًا مِنْهُ وَحِكْمَةً، وَهُوَ تَعَالَى يَأْخُذُ الظَّالِمَ وَالْفَاجِرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ لَا كَمَا يَفْعَلُ الظَّلَمَةُ بِعِبَادِهِ.

وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ فَيْعَلَةٌ مِمَّا يَسُوءُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسُوءُ صَاحِبَهَا؛ فَهِيَ سَيِّئَةٌ لَهُ حَسَنَةٌ مِنْ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، وَإِذَا عَرَفْتُ ذَلِكَ فَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ كَانَ قَدْ كِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَوَّلُهَا أَنَّ إخْوَتَهُ كَادُوا بِهِ كَيْدًا حَيْثُ احْتَالُوا بِهِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، ثُمَّ إنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ كَادَتْهُ بِمَا أَظْهَرَتْ أَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا ثُمَّ أُودِعَ السِّجْنَ، ثُمَّ إنَّ النِّسْوَةَ كَادُوهُ حَتَّى اسْتَعَاذَ.

بِاَللَّهِ مِنْ كَيْدِهِنَّ فَصَرَفَهُ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: ٥] وَقَالَ الشَّاهِدُ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: ٢٨] . وَقَالَ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: ٥٠] فَكَادَ اللَّهُ لَهُ أَحْسَنَ كَيْدٍ وَأَلْطَفَهُ وَأَعْدَلَهُ، بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَيْدِي إخْوَتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَمَا أَخْرَجُوا يُوسُفَ مِنْ يَدِ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَكَادَ لَهُ عِوَضَ كَيْدِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ ضِيقِ السِّجْنِ إلَى فَضَاءِ الْمُلْكِ، وَمَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ، وَكَانَ لَهُ فِي تَصْدِيقِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي كَذَّبْنَهُ وَرَاوَدْنَهُ حَتَّى شَهِدْنَ بِبَرَاءَتِهِ وَعِفَّتِهِ، وَكَادَ لَهُ فِي تَكْذِيبِ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لِنَفْسِهَا وَاعْتِرَافِهَا بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي رَاوَدَتْهُ وَأَنَّهُ مِنْ الصَّادِقِينَ؛ فَهَذِهِ عَاقِبَةُ مَنْ صَبَرَ عَلَى كَيْدِ الْكَائِدِ لَهُ بَغْيًا وَعُدْوَانًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>