للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَصْلٌ [النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ كَيْدِ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ]

النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ كَيْدِهِ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ: هُوَ أَنْ يُلْهِمَهُ تَعَالَى أَمْرًا مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا يُوَصِّلُهُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ الْحَسَنِ؛ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا إلْهَامُهُ لِيُوسُفَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ هُوَ مِنْ كَيْدِهِ تَعَالَى أَيْضًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: ٧٦] فَإِنَّ فِيهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الدَّقِيقَ الْمُوَصِّلَ إلَى الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ صِفَةُ مَدْحٍ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَخْصِمُ بِهِ الْمُبْطِلَ صِفَةُ مَدْحٍ؛ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مِنْ الْكَيْدِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَيْدُ الَّذِي تُسْتَحَلُّ بِهِ الْمُحَرَّمَاتُ أَوْ تُسْقَطُ بِهِ الْوَاجِبَاتُ؛ فَإِنَّ هَذَا كَيْدٌ لِلَّهِ، وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يَكِيدُ الْكَائِدَ، وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكَادَ دِينُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْكَيْدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلِ يُقْصَدُ بِهِ غَيْرَ مَقْصُودِهِ الشَّرْعِيِّ، وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَقْصِدَ بِفِعْلِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَهُ.

فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ الْمُتَحَيِّلِينَ بِقِصَّةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فَصْلٌ [الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي تَمْرِ خَيْبَرَ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ]

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ: «بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» فَمَا أَصَحُّهُ مِنْ حَدِيثٍ، وَنَحْنُ نَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالْكَلَامُ مَعَكُمْ فِيهِ مِنْ مَقَامَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إبْطَالُ اسْتِدْلَالِكُمْ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْحِيَلِ، وَثَانِيهِمَا: بَيَانُ دَلَالَتِهِ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِكُمْ؛ إذْ هَذَا شَأْنُ كُلِّ دَلِيلٍ صَحِيحٍ احْتَجَّ بِهِ مُحْتَجٌّ عَلَى بَاطِلٍ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ ظَاهِرًا أَوْ إيمَاءً، مَعَ عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى قَوْلِهِ.

[بَحْثٌ فِي دَلَالَةِ الْمُطْلَقِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِّ]

فَأَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: غَايَةُ مَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ الْأُولَى بِثَمَنٍ ثُمَّ يَبْتَاعُ بِثَمَنِهَا تَمْرًا آخَرَ» ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَأْذَنُ فِي الْعَقْدِ الْبَاطِلِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ صَحِيحًا،

<<  <  ج: ص:  >  >>