للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَمْ يَصِحَّ أَنْ تُلْحَقَ بِهَا صُورَةُ عَقْدٍ لَمْ تُقْصَدْ حَقِيقَتُهُ، وَإِنَّمَا قُصِدَ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ لِأَنَّهَا عُمْدَةُ أَرْبَابِ الْحِيَلِ مِنْ السُّنَّةِ، كَمَا [أَنَّ] عُمْدَتَهُمْ مِنْ الْكِتَابِ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: ٤٤] .

فَصْلٌ [دَلَالَةُ حَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ] : فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ عَدَمُ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ.

وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي - وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَفَسَادِهَا - فَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي فِي الْحِيَلِ مَقْصُودَةٌ يَرْتَفِع سِعْرُهُ لِأَجْلِهَا، وَالْعَاقِلُ لَا يَخْرُجُ صَاعَيْنِ وَيَأْخُذُ صَاعًا إلَّا لِتَمَيُّزِ مَا يَأْخُذُهُ بِصِفَةٍ، أَوْ لِغَرَضٍ لَهُ فِي الْمَأْخُوذِ لَيْسَ فِي الْمَبْذُولِ، وَالشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يَمْنَعُ الْمُكَلَّفَ مِمَّا هُوَ

مَصْلَحَةٌ لَهُ

وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا لِتَضَمُّنِهِ أَوْ لِاسْتِلْزَامِهِ مَفْسَدَةً أَرْجَحَ مِنْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ خَفِيَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاس حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَتَبَيَّنُ لِي مَا وَجْهُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ وَالْحِكْمَةِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ وَمُرَاعَاةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ:

" رِبَا نَسِيئَةٍ، وَتَحْرِيمُهُ تَحْرِيمُ الْمَقَاصِدِ، وَرِبَا فَضْلٍ، وَتَحْرِيمُهُ تَحْرِيمُ الذَّرَائِعِ وَالْوَسَائِلِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَتَى ذَاقَتْ الرِّبْحَ فِيهِ عَاجِلًا تَسَوَّرَتْ مِنْهُ إلَى الرِّبْحِ الْآجِلِ، فَسُدَّتْ عَلَيْهَا بِالذَّرِيعَةِ وَحُمِيَ جَانِبُ الْحِمَى، وَأَيُّ حِكْمَةٍ وَحُكْمٍ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ بِلَالًا مِنْ أَخْذِ مُدٍّ بِمُدَّيْنِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الرِّبَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ بِحِيلَةٍ لَمْ يَكُنْ فِي مَنْعِهِ مِنْ بَيْعِ مُدَّيْنِ بِمُدٍّ فَائِدَةٌ أَصْلًا، بَلْ كَانَ بَيْعُهُ كَذَلِكَ أَسْهَلَ وَأَقَلَّ مَفْسَدَةً مِنْ تَوَسُّطِ الْحِيلَةِ الْبَارِدَةِ الَّتِي لَا تُغْنِي مِنْ الْمَفْسَدَةِ شَيْئًا، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تَفْعَلْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا» فَنَهَاهُ عَنْ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْمَنْعَ بِحِيلَةٍ أَوْ غَيْرِ حِيلَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ لِأَجْلِهَا يَنْهَى عَنْهُ، وَتِلْكَ الْمَفْسَدَةُ لَا تَزُولُ بِالتَّحَيُّلِ عَلَيْهَا، بَلْ تَزِيدُ، وَأَشَارَ إلَى الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ: «أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الرِّبَا وَعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلصُّورَةِ الْمُجَرَّدَةِ مَعَ قِيَامِ الْحَقِيقَةِ؛ فَلَا يُهْمَلُ قَوْلُهُ: «عَيْنُ الرِّبَا» فَتَحْتَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْحَقَائِقِ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُعَوَّلُ، وَهِيَ مَحَلُّ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِهَا وَعِبَارَاتِهَا الَّتِي يَكْسُوهَا إيَّاهَا الْعَبْدُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى حَقَائِقِهَا وَذَوَاتِهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>