للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَخَذَهُ مِنْهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَحْسِبَهُ مِنْ الزَّكَاةِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الزَّكَاةِ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ مَالِكًا لِلْوَفَاءِ، فَيُطَالِبُهُ حِينَئِذٍ بِالْوَفَاءِ، فَإِذَا أَوْفَاهُ بَرِئَ وَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ عَنْ الدَّافِعِ.

وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ أَوْ مَنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ أَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ بِنِيَّةِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ دَيْنِهِ، فَكُلُّ هَذَا لَا يُسْقِطُ عَنْهُ الزَّكَاةَ، وَلَا يُعَدُّ مَخْرَجًا لَهَا لَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا كَمَا لَوْ أَسْقَطَ دَيْنَهُ وَحَسَبَهُ مِنْ الزَّكَاةِ.

قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ بِرَهْنٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ قَضَاؤُهُ، وَلِهَذَا الرَّجُلِ زَكَاةُ مَالٍ، قَالَ: يُفَرِّقُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِ رَهْنَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: الدَّيْنُ الَّذِي لِي عَلَيْكَ هُوَ لَكَ، وَيَحْسِبُهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: فَيَدْفَعُ إلَيْهِ زَكَاتَهُ فَإِنْ رَدَّهُ إلَيْهِ قَضَى مِمَّا أَخَذَهُ مِنْ مَالِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - وَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ أَعْطَاهُ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ؟ - قَالَ: إذَا كَانَ بِحِيلَةٍ فَلَا يُعْجِبُنِي، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ اسْتَقْرَضَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ فَقَضَاهُ إيَّاهَا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ وَحَسِبَهَا مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: إذَا أَرَادَ بِهَذَا إحْيَاءَ مَالِهِ فَلَا يَجُوزُ، وَمُطْلَقُ كَلَامِهِ يَنْصَرِفُ إلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ؛ فَيَحْصُلُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى الْغَرِيمِ جَائِزٌ، سَوَاءٌ دَفَعَهَا ابْتِدَاءً أَوْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ثُمَّ دَفَعَ مَا اسْتَوْفَاهُ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ بِالدَّفْعِ إحْيَاءَ مَالِهِ وَاسْتِيفَاءَ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ لِلَّهِ وَلِلْمُسْتَحِقِّ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الدَّافِعِ، يَفُوزُ بِنَفْعِهَا الْعَاجِلِ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ مَنَعَهُ مِنْ أَخْذِهَا مِنْ الْمُسْتَحِقِّ بِعِوَضِهَا، فَقَالَ: " لَا تَشْتَرِهَا وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ " فَجَعَلَهُ بِشِرَائِهَا مِنْهُ بِثَمَنِهَا عَائِدًا فِيهَا، فَكَيْفَ إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِ بِنِيَّةِ أَخْذِهَا مِنْهُ؟ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا جَاءَ الْمُصَدَّقُ فَادْفَعْ إلَيْهِ صَدَقَتَكَ، وَلَا تَشْتَرِهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: " ابْتَعْهَا " فَأَقُولُ: إنَّمَا هِيَ لِلَّهِ.

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا تَشْتَرِ طَهُورَ مَالِكِ.

وَلِلْمَنْعِ مِنْ شِرَائِهِ عِلَّتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُتَّخَذُ ذَرِيعَةً وَحِيلَةً إلَى اسْتِرْجَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَسْتَحِي مِنْهُ فَلَا يُمَاكِسُهُ فِي ثَمَنِهَا، وَرُبَّمَا أَرْخَصَهَا لِيَطْمَعَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَةً أُخْرَى، وَرُبَّمَا عَلِمَ أَوْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَبِعْهُ إيَّاهَا اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ فَيَقُولُ: ظَفَرِي بِهَذَا الثَّمَنِ خَيْرٌ مِنْ الْحِرْمَانِ.

الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: قَطْعُ طَمَعِ نَفْسِهِ عَنْ الْعَوْدِ فِي شَيْءٍ أَخْرَجَهُ لِلَّهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَإِنَّ النَّفْسَ مَتَى طَمِعَتْ فِي عَوْدِهِ بِوَجْهٍ مَا فَآمَالُهَا بَعْدُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، فَلَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسًا لِلَّهِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، فَقَطَعَ عَلَيْهَا طَمَعَهَا فِي الْعَوْدِ، وَلَوْ بِالثَّمَنِ، لِيَتَمَحَّصَ الْإِخْرَاجُ لِلَّهِ، وَهَذَا شَأْنُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ ذَوَاتِ الْأَقْدَارِ وَالْهِمَمِ، أَنَّهَا إذَا أَعْطَتْ عَطَاءً لَمْ تَسْمَحْ بِالْعَوْدِ فِيهِ بِوَجْهٍ لَا بِشِرَاءٍ وَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>