للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْقَابِضِ إلَّا بِمَا يَرْجِعُ لَهُ عَلَيْهِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُسْتَأْجِرًا بِمَا غَرِمَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ.

وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ خَاصَّةً، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُشْتَرِيًا بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا بَذَلَهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُسْتَعِيرًا بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ؛ إذْ لَا مُسَمًّى هُنَاكَ، وَإِذَا كَانَ مُتَّهَبًا أَوْ مُودَعًا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ مِنْ الْغَاصِبِ هُوَ الْمَالِكُ فَلَا شَيْءَ لَهُ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَمَا سِوَاهُ فَعَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْءٌ، وَأَمَّا مَا لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا بَلْ يَكُونُ قَرَارُهُ عَلَى الْغَاصِبِ فَهُوَ عَلَى الْغَاصِبِ أَيْضًا هَاهُنَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ الْمَغْرُورِ ابْتِدَاءً، كَمَا لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ قَرَارًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُودِعِ إذَا أَوْدَعَهَا - يَعْنِي الْوَدِيعَةَ - عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَتَلِفَتْ فَإِنَّهُ لَا يُضَمِّنُ الثَّانِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ.

وَطَرْدُ هَذَا النَّصِّ أَنَّهُ لَا يُطَالِبُ الْمَغْرُورَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّهُ مَغْرُورٌ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَنَّهُ مُطَالَبٌ، فَلَا هُوَ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ وَلَا الشَّارِعُ أَلْزَمَهُ بِهَا، وَكَيْفَ يُطَالِبُ الْمَظْلُومَ الْمَغْرُورَ وَيَتْرُكُ الظَّالِمَ الْغَارَّ؟ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مُحْسِنًا بِأَخْذِهِ الْوَدِيعَةَ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهَذَا شَأْنُ الْغَارِّ الظَّالِمِ.

وَقَدْ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْمَغْرُورَ بِالْأَمَةِ إذَا وَطِئَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، وَأَخَذَ مِنْهُ سَيِّدُهَا الْمَهْرَ، رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ.

وَقَضَى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عِوَضَهُ.

وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ الصَّحَابَةِ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٌ أَخَذَ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ أَخَذَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ.

وَقَوْلُ عُمَرَ أَفْقَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِالْمَهْرِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالثَّمَنِ وَقَدْ بَذَلَهُ، وَأَيْضًا فَالْبَائِعُ ضَمِنَ لَهُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ سَلَامَةَ الْوَطْءِ كَمَا ضَمِنَ لَهُ سَلَامَةَ الْوَلَدِ.

فَكَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي أُجْرَةِ الِاسْتِخْدَامِ إذَا ضَمَّنَهُ إيَّاهَا الْمُسْتَحِقُّ، هَلْ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَارِّ؟ .

قُلْنَا: نَعَمْ يَرْجِعُ بِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، وَقَدْ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>