للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَئِمَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ جَوَّزُوهُ عَلَى وَجْهِ الْحِيلَةِ إلَى الْمُحَرَّمِ، وَإِنَّمَا جَوَّزُوا صُورَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ.

ثُمَّ إنَّ الْمُتَحَيِّلَ الْمُخَادِعَ الْمَكَّارَ أَخَذَ صُورَةَ مَا أَفْتَوْا بِهِ فَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى مَا مَنَعُوا مِنْهُ، وَرَكَّبَ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَفَتَاوَاهُمْ، وَهَذَا فِيهِ الْكَذِبُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الشَّارِعِ، مِثَالُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجَوِّزُ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ؛ فَيَتَّخِذُهُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ لِوَارِثِهِ وَسِيلَةً إلَى الْوَصِيَّةِ لَهُ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ.

وَيَقُولُ: هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بِالتَّحَيُّلِ عَلَيْهَا بِالْإِقْرَارِ؛ فَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ لِلرَّجُلِ إذَا اشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِ سِلْعَةً بِثَمَنٍ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهَا بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ السَّلَامَةِ. وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ حِيلَةً عَلَى بَيْعِ مِائَةٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ إلَى سَنَةٍ؛ فَاَلَّذِي يَسُدُّ الذَّرَائِعَ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: هُوَ يُتَّخَذُ حِيلَةً إلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَلَا يَقْبَلُ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعَ. وَلَا سِيَّمَا فَإِنَّ إقْرَارَ الْمَرْءِ شَهَادَةٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا التُّهْمَةُ بَطَلَتْ كَالشَّهَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ. وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: أَقْبَلُ إقْرَارَهُ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِالْمُقِرِّ، وَحَمْلًا لِإِقْرَارِهِ عَلَى السَّلَامَةِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْخَاتِمَةِ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ احْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى فَسْخِ نِكَاحِ الزَّوْجِ بِمَا يُعْلِمُهُ إيَّاهَا أَرْبَابُ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، بِأَنْ تُنْكِرَ أَنْ تَكُونَ أَذِنَتْ لِلْوَلِيِّ، أَوْ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ أَوْ الشُّهُودَ جَلَسُوا وَقْتُ الْعَقْدِ عَلَى فِرَاشِ حَرِيرٍ، أَوْ اسْتَنَدُوا إلَى وِسَادَةِ حَرِيرٍ.

وَقَدْ رَأَيْت مَنْ يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الْحِيلَةَ إذَا طَلَّقَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَأَرَادَ تَخْلِيصَهُ مِنْ عَارِ التَّحْلِيلِ وَشَنَارِهِ أَرْشَدَهُ إلَى الْقَدْحِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِفِسْقِ الْوَلِيِّ أَوْ الشُّهُودِ، فَلَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ. وَقَدْ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا لَمَّا كَانَ مُقِيمًا مَعَهَا عِدَّةَ سِنِينَ، فَلَمَّا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فَسَدَ النِّكَاحُ.

وَمِنْ هَذَا احْتِيَالُ الْبَائِعِ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا وَقْتَ الْعَقْدِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا، أَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مِلْكًا لَهُ وَلَا مَأْذُونًا لَهُ فِي بَيْعِهِ

فَهَذِهِ الْحِيَلُ وَأَمْثَالُهَا لَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ فِي أَنَّهَا مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَأَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهِيَ مِنْ التَّلَاعُبِ بِدِينِ اللَّهِ، وَاِتِّخَاذِ آيَاتِهِ هُزُوًا، وَهِيَ حَرَامٌ مِنْ جِهَتِهَا فِي نَفْسِهَا لِكَوْنِهَا كَذِبًا وَزُورًا، وَحَرَامٌ مِنْ جِهَةِ الْمَقْصُودِ بِهَا، وَهُوَ إبْطَالُ حَقٍّ وَإِثْبَاتُ بَاطِلٍ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

[الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ]

أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ مُحَرَّمَةً وَيُقْصَدُ بِهَا الْمُحَرَّمُ.

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً فِي نَفْسِهَا وَيُقْصَدُ بِهَا الْمُحَرَّمُ؛ فَيَصِيرُ حَرَامًا تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ كَالسَّفَرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>