للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ السِّقَايَةِ الَّتِي وَقَفَهَا، وَيُدْفَنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الَّتِي سَبَّلَهَا، أَوْ يَمُرُّ فِي الطَّرِيق الَّتِي فَتْحَهَا، وَيَنْتَفِعُ بِالْكِتَابِ الَّذِي وَقَفَهُ، وَيَجْلِسُ عَلَى الْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ اللَّذَيْنِ وَقَفَهُمَا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَإِذَا جَازَ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فِي الْجِهَةِ الْعَامَّةِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ، لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى، بَلْ الْجَوَازُ هُنَا أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِالتَّعْيِينِ، وَهُنَاكَ دَخَلَ فِي الْوَقْفِ بِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ.

وَتَقْلِيدُ هَذَا الْقَوْلِ خَيْرٌ مِنْ الْحِيلَةِ الْبَارِدَةِ الَّتِي يُمَلِّكُ الرَّجُلُ فِيهَا مَالَهُ لِمَنْ لَا تَطِيبُ لَهُ نَفْسُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ دِرْهَمًا ثُمَّ يَقِفَهُ ذَلِكَ الْمُمَلَّكُ عَلَى الْمُمَلِّكِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ تَضَمَّنَتْ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ. وَالثَّانِي: اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَوْ إذْنُهُ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا فِي الْمَعْنَى تَوْكِيلٌ [لَهُ] فِي الْوَقْفِ، كَمَا أَنَّ اشْتِرَاطَهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ الْوَقْفِ؛ فَصَارَ وُجُودُ هَذَا التَّمْلِيكِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُمَلَّكُ وَلَا يُمْكِنُهُ وُجُودُ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ وَقْفِهِ لَمْ يَحِلَّ لِوَرَثَتِهِ أَخْذُهُ، وَلَوْ أَنَّهُ أَخَذَهُ وَلَمْ يَقِفْهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ عُدَّ ظَالِمًا غَاصِبًا، وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ هَذَا التَّمْلِيكِ لَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذًا كَنُفُوذِهِ قَبْلَهُ، هَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُمَا تَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهُ إنَّمَا وَهَبَهُ إيَّاهُ بِشَرْطِ أَنْ يَقِفَهُ عَلَيْهِ أَوْ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ عِنْدَكُمْ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ؟

قِيلَ: نَعَمْ، أَنْ يَقِفَهُ عَلَى الْجِهَاتِ الَّتِي يُرِيدُ؛ وَيَسْتَثْنِيَ غَلَّتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَهَذَا جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَةِ ذَلِكَ مُدَّةً. وَيُجَوِّزُونَ أَنْ يَقِفَ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةٍ أَوْ إلَى حِينِ مَوْتِهِ. وَيَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَبِحَدِيثِ عِتْقِ أُمِّ سَلَمَةَ سَفِينَةَ، وَبِحَدِيثِ عِتْقِ صَفِيَّةَ، وَبِآثَارٍ صِحَاحٍ كَثِيرَةٍ عَنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يُعْلَمْ فِيهِمْ مَنْ خَالَفَهَا، وَلِهَذَا الْقَوْلِ قُوَّةٌ فِي الْقِيَاسِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ عَدَلَ إلَى الْحِيلَةِ الْأُولَى فَمَا حُكْمُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؟ وَمَا حُكْمُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ بِالْحَالِ، هَلْ يَطِيبُ لَهُ تَنَاوُلُ الْوَقْفِ أَمْ لَا؟

قِيلَ: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْوَقْفِ وَنُفُوذَهُ، وَيَطِيبُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ تَنَاوُلُ الْوَقْفِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ وَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقُ إلَيْهِ غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ وَهَذَا كَمَا إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ أَوْ طَلَّقَ الْمَرْأَةَ وَجَحَدَ ذَلِكَ فَأَقَامَ الْعَبْدُ أَوْ الْمَرْأَةُ شَاهِدَيْنِ لَمْ يَعْلَمَا ذَلِكَ فَشَهِدَا بِهِ وَسِعَ الْعَبْدَ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ وَالْمَرْأَةَ أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَفِقْهُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَذَا الْإِذْنَ وَالتَّوْكِيلَ فِي الْوَقْفِ وَإِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>