ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ: إذَا حَبَسَ السِّلْعَةَ بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ فَهُوَ غَاصِبٌ، وَلَا يَكُونُ رَهْنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ الرَّهْنَ، فَظَاهِرُ هَذَا إنْ شَرَطَ كَوْنَ الْمَبِيعِ رَهْنًا [فِي حَالِ الْعَقْدِ أَصَحُّ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ رَهْنًا] غَيْرَ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ رَهْنِ الْبَيْعِ اشْتِرَاطُ تَعْوِيقِ التَّسْلِيمِ فِي الْمَبِيعِ.
قُلْت: وَلَا يَخْفَى مُنَافَاةُ مَا قَالَهُ لِظَاهِرِ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي صُورَةِ حَبْسِ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ، فَقَالَ: " هُوَ غَاصِبٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ الرَّهْنَ " أَيْ: فَلَا يَكُونُ غَاصِبًا بِحَبْسِ السِّلْعَةِ بِمُقْتَضَى شَرْطِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ إذَا حَبَسَ السِّلْعَةَ بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ فَهُوَ غَاصِبٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ لَهُ رَهْنًا آخَرَ غَيْرَ الْمَبِيعِ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَرْتَبِطُ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْأَوَّلِ ثُمَّ يُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلِهَذَا جَعَلَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ نَصًّا فِي صِحَّةِ هَذَا الشَّرْطِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ " إنَّ اشْتِرَاطَ رَهْنِ الْمَبِيعِ تَعْوِيقٌ لِلتَّسْلِيمِ فِي الْمَبِيعِ " فَيُقَالُ: وَاشْتِرَاطُ التَّعْوِيقِ إذَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ الْبَائِعِ، وَلَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي فَأَيُّ مَحْذُورٍ فِيهِ؟ ثُمَّ هَذَا يَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ؛ فَإِنَّ فِيهِ تَعْوِيقًا لِلْمُشْتَرِي عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ، وَبِاشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي تَأْجِيلَ الثَّمَنِ؛ فَإِنَّ فِيهِ تَعْوِيقًا لِلْبَائِعِ عَنْ تَسَلُّمِهِ أَيْضًا، وَيَبْطُلُ عَلَى أَصْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَصْحَابِهِ بِاشْتِرَاطِ الْبَائِعِ انْتِفَاعَهُ بِالْمَبِيعِ مُدَّةً يَسْتَثْنِيهَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَعْوِيقًا لِلتَّسْلِيمِ، وَيَبْطُلُ أَيْضًا بِبَيْعِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا قَبْلَ قَبْضِهِ تَدَافَعَ مُوجِبُ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ، فَإِنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ مِنْ ضَمَانِ مَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَمُوجِبُ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ قَبْلَ التَّمْكِينِ مِنْ قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَإِذَا تَلِفَ هَذَا الرَّهْنُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ، فَمِنْ ضَمَانِ أَيِّهِمَا يَكُونُ؟ قِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ أَقْوَى مِنْ السُّؤَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَالتَّدَافُعُ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْ التَّدَافُعِ فِي التَّعْلِيلِ الثَّانِي، وَجَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الضَّمَانَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ كَانَ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا كَانَ، وَلَا يُزِيلُ هَذَا الضَّمَانَ إلَّا تَمَكُّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَبْضِ، فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَبْضِهِ فَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute