للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الطَّلَاقُ حِينَئِذٍ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ تَحَقَّقَ وُجُودُهُ بِمُبَاشَرَةِ الْآدَمِيِّ سَبَبَهُ، قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ شَاءَ اللَّهُ حِينَئِذٍ أَنْ تَطْلُقَ، قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ شَرْعًا، وَقَدَرًا؛ فَإِذَا أَتَى بِهَا الْمُكَلَّفُ فَقَدْ أَتَى بِمَا شَاءَهُ اللَّهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ قَطُّ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاَللَّهُ شَاءَ الْأُمُورَ بِأَسْبَابِهَا؛ فَإِذَا شَاءَ تَكْوِينَ شَيْءٍ، وَإِيجَادَهُ شَاءَ سَبَبَهُ؛ فَإِذَا أَتَى الْمُكَلَّفُ بِسَبَبِهِ فَقَدْ أَتَى بِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَمَشِيئَةُ السَّبَبِ مَشِيئَةٌ لِلْمُسَبِّبِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَشَأْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لَمْ يُمَكِّنْ الْمُكَلَّفَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ؛ فَإِنَّ مَا لَمْ يَشَأْ اللَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ كَمَا أَنَّ مَا شَاءَهُ وَجَبَ وُجُودُهُ.

قَالُوا: وَهَذَا فِي الْقَوْلِ نَظِيرُ الْمَشِيئَةِ فِي الْفِعْلِ، فَلَوْ قَالَ: " أَنَا أَفْعَلُ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْفِعْلِ صَحَّ ذَلِكَ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ فِعْلِي هَذَا إنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، كَمَا لَوْ قَالَ حَالَ دُخُولِهِ الدَّارَ " أَنَا أَدْخُلُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ قَالَ مَنْ تَخَلَّصَ مِنْ شَرٍّ: " تَخَلَّصْت إنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ، وَإِخْوَتِهِ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: ٩٩] فِي حَالِ دُخُولِهِمْ، وَالْمَشِيئَةُ رَاجِعَةٌ إلَى الدُّخُولِ الْمُقَيَّدِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ؛ فَالْمَشِيئَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا، قَالُوا: وَلَوْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهُمَا: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ قَالَ: " أَنَا مُسْلِمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ شَيْئًا، وَلَا يَجْعَلُهُ إسْلَامًا مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ.

قَالُوا: وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ تَكَلُّمَهُ بِالطَّلَاقِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " تَحْقِيقٌ لِمَا قَدْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ اللَّهَ شَاءَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ اللَّهُ أَبَاحَ الطَّلَاقَ، وَأَذِنَ فِيهِ "، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا " فَإِنَّهُ شَرَطَ فِي طَلَاقِهَا مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ؛ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَقَعَ مَا عَلَّقَ بِهِ، وَوُجُودُ الشَّرْطِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ إنَّمَا يُعْلَمُ بِمُبَاشَرَةِ الْعَبْدِ سَبَبَهُ؛ فَإِذَا بَاشَرَهُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَهُ، قَالُوا: وَأَيْضًا فَالْكَفَّارَةُ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَرْفَعُ حُكْمَ الْيَمِينِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ عَقْدَهَا، وَالرَّافِعُ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تُؤَثِّرُ مُتَّصِلَةً وَمُنْفَصِلَةً، وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يُؤَثِّرُ مَعَ الِانْفِصَالِ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ مَعَ قُوَّتِهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ فَأَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْلَى وَأَحْرَى، قَالُوا: وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " إنْ كَانَ اسْتِثْنَاءً فَهُوَ رَافِعٌ لِجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَلَا يَرْتَفِعُ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ طَلَاقَك، أَوْ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُوقِعَ عَلَيْك فِي الْمُسْتَقْبَلِ طَلَاقًا غَيْرَ هَذَا؛ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلَ فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَهَا بِمَشِيئَتِهِ لِسَبَبِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ فَلَا سَبِيلَ لِلْمُكَلَّفِ إلَى الْعِلْمِ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، فَقَدْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِمَشِيئَتِهِ؛ فَيَلْغُو التَّعْلِيقُ، وَيَبْقَى أَصْلُ الطَّلَاقِ فَيَنْفُذُ.

قَالُوا: وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُ كَائِنٌ، فَوَجَبَ نُفُوذُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ عَلِمَ اللَّهُ " أَوْ " إنْ قَدَّرَ اللَّهُ " أَوْ " إنْ سَمِعَ " أَوْ " إنْ رَأَى ".

<<  <  ج: ص:  >  >>