الشَّرْطِ مُمْكِنٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ سَاعَدْتُمُونَا عَلَى الْإِمْكَانِ، وَلَا رَيْبَ فِي هَذِهِ الْمُسَاعَدَةِ قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ جِدًّا، وَحَصَلَتْ الْمُسَاعَدَةُ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ صَحَّ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ مُمْكِنٍ، فَبَقِيَتْ مَنْزِلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ تَأْثِيرَ الشَّرْطِ وَعَمَلَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ أَمْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ يَجُوزُ تَأْثِيرُهُ فِي الْمَاضِي، وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ؟ .
فَإِنْ سَاعَدْتُمُونَا عَلَى تَوَقُّفِ تَأْثِيرِهِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِمَاضٍ، وَلَا حَالٍ - وَأَنْتُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مُسَاعِدُونَ - بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَنْزِلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى الْعِلْمِ بِوُقُوعِ هَذَا الشَّرْطِ فَيَتَرَتَّبُ الْمَشْرُوطُ عَلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِهِ أَمْ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ فَيَكُونُ التَّعْلِيقُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا عَلَى مَا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَنَا طَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ بِهِ؟ فَهَاهُنَا مُعْتَرَكُ النِّزَالِ، وَدَعْوَةُ الْأَبْطَالِ، فَنَزَالِ نَزَالِ.
فَنَقُولُ: مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ، وَأَبْيَنِ الْفَضَائِحِ، الَّتِي تَشْمَئِزُّ مِنْهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتُنْكِرُهَا فِطَرُ الْعَالَمِينَ، مَا تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُكُمْ، وَهَذَا لَفْظُهُ بَلْ حُرُوفُهُ، قَالَ: لَنَا إنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الصِّفَاتُ الْمُسْتَحِيلَةُ، مِثْلَ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ الْحَجَرُ " أَوْ " إنْ شَاءَ الْمَيِّتُ ": أَوْ " إنْ شَاءَ هَذَا الْمَجْنُونُ الْمُطْبَقُ الْآنَ " فَيَا لَك مِنْ قِيَاسٍ مَا أَفْسَدَهُ، وَعَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ مَا أَبْعَدَهُ، وَهَلْ يَسْتَوِي فِي عَقْلٍ أَوْ رَأْيٍ أَوْ نَظَرٍ أَوْ قِيَاسٍ مَشِيئَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَمَشِيئَةُ الْحَجَرِ وَالْمَيِّتِ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عُقَلَاءِ النَّاسِ؟ .
وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَعِيَاذًا بِهِ مِنْ الْخِذْلَانِ، وَنَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ تَمَسُّكُ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا تُعْلَمُ مَشِيئَتُهُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ، كَمَا لَوْ قَالَ ": أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ إبْلِيسُ " فَسُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك، وَعِيَاذًا بِوَجْهِك الْكَرِيمِ، مِنْ هَذَا الْخِذْلَانِ الْعَظِيمِ، وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي نُصْرَةِ هَذَا الْقَوْلِ غِنًى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْمَلْعُونَةِ فِي ضُرُوبِ الْأَقْيِسَةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَعَانِي وَالْإِلْزَامَاتِ فُسْحَةٌ وَمُتَّسَعٌ، وَلِلَّهِ شَرَفُ نُفُوسِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُمْ، وَشَادَّ فِي الْعَالَمِينَ ذِكْرَهُمْ، حَيْثُ يَأْنَفُونَ لِنُفُوسِهِمْ، وَيَرْغَبُونَ بِهَا عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْهَذَيَانَاتِ الَّتِي تَسْوَدُّ بِهَا الْوُجُوهُ قَبْلَ الْأَوْرَاقِ، وَتُحِلُّ بِقَمَرِ الْإِيمَانِ الْمَحَاقُ.
وَعِنْدَ هَذَا فَنَقُولُ: عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ مَنْ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى مَشِيئَتِهِ، وَتُعْلَمُ مَشِيئَتُهُ عِنْدَ وُجُودِ كُلِّ حَادِثٍ أَنَّهُ إنَّمَا وَقَعَ بِمَشِيئَتِهِ، فَهَذَا التَّعْلِيقُ مِنْ أَصَحِّ التَّعْلِيقَاتِ، فَإِذَا أَنْشَأَ الْمُعَلِّقُ طَلَاقًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَبَيَّنَّا وُجُودَ الشَّرْطِ بِإِنْشَائِهِ فَوَقَعَ؛ فَهَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ شَرْعًا وَفِطْرَةً وَقَدَرًا، وَتَعْلِيقٌ مَقْبُولٌ.
يُبَيِّنُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَهَا مَاضِيًا قَطْعًا، بَلْ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ هَذَا الطَّلَاقَ الَّذِي تَلَفَّظَ بِهِ أَوْ طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا غَيْرَهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ هَذَا الْمَلْفُوظُ؛ فَإِنَّهُ لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute