للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَقُولُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَمَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى؛ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ ثَنَيْتُ الشَّيْءَ، كَأَنَّ الْمُسْتَثْنِيَ بِإِلَّا قَدْ عَادَ عَلَى كَلَامِهِ فَثَنَى آخِرَهُ عَلَى أَوَّلِهِ بِإِخْرَاجِ مَا أَدْخَلَهُ أَوَّلًا فِي لَفْظِهِ، وَهَكَذَا التَّقَيُّدُ بِالشَّرْطِ سَوَاءٌ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ قَدْ ثَنَى آخِرَ كَلَامِهِ عَلَى أَوَّلِهِ فَقَيَّدَ بِهِ مَا أَطْلَقَهُ أَوَّلًا، وَأَمَّا تَخْصِيصُ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا، وَأَخَوَاتِهَا فَعُرْفٌ خَاصٌّ لِلنُّحَاةِ.

وَقَوْلُكُمْ: " إنْ كَانَ شَرْطًا، وَيُرَادُ بِهِ إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ طَلَاقَك فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَنْفُذُ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ بِمَشِيئَتِهِ لِسَبَبِهِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُطَلِّقَك فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ عَلَّقَهُ بِمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِهِ فَيَلْغُو التَّعْلِيقُ وَيَبْقَى أَصْلُ الطَّلَاقِ " فَهَذَا هُوَ أَكْبَرُ عُمْدَةِ الْمُوَقِّعِينَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ تَكَلُّمِي بِهَذَا اللَّفْظِ أَوْ شَاءَ طَلَاقَك بِهَذَا اللَّفْظِ طَلُقَتْ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَثْنِيَ لَمْ يُرِدْ هَذَا، بَلْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ، فَبَقِيَ الْقِسْمُ الْآخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْك فِيمَا يَأْتِي، فَهَذَا تَعْلِيقٌ صَحِيحٌ مَعْقُولٌ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِوُجُودِ مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ بِوُجُودِ سَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُ كَائِنٌ، فَوَجَبَ نُفُوذُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ عَلِمَ اللَّهُ، أَوْ إنْ قَدَّرَ اللَّهُ، أَوْ سَمِعَ اللَّهُ - إلَى آخِرِهِ " فَمَا أَبْطَلَهَا مِنْ حُجَّةٍ، فَإِنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَبَطَلَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ بِعَيْنِهِ، وَلَا نَفَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَثْنِيَ لَمْ يَخْطُرْ هَذَا عَلَى بَالِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَعْلِيقِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ إنْ شَاءَهُ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَقَعْ، وَلِذَلِكَ كَانَ مُسْتَثْنِيًا، أَيْ: وَإِنْ كُنْت قَدْ الْتَزَمْت الْيَمِينَ أَوْ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ فَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ بَعْدَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَبَعًا لَهَا، فَإِنْ شَاءَهُ فَهُوَ تَعَالَى يُنْفِذُهُ بِمَا يُحْدِثُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَلَمْ يُرِدْ الْمُسْتَثْنِيَ إنْ كَانَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ أَوْ عِلْمٌ أَوْ سَمْعٌ أَوْ بَصَرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ ذَلِكَ بِبَالِهِ أَلْبَتَّةَ.

يُوَضِّحُهُ: أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، وَلَا سِيَّمَا بِأَدَاةِ " إنْ " الَّتِي لِلْجَائِزِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَلَوْ شَكَّ فِي هَذَا لَكَانَ ضَالًّا، بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ الْخَاصَّةِ، فَإِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالطَّلَاقِ، وَأَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِهِ، وَهُوَ شَاكٌّ فِيهَا كَمَا يَشُكُّ الْعَبْدُ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ هَلْ شَاءَهُ أَمْ لَا؟ فَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي فِي فِطَرِ الْحَالِفِينَ وَالْمُسْتَثْنِينَ، وَحَذْفُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ لَمْ يَكُنْ لِمَا ذَكَرْتُمْ، وَهُوَ عَدَمُ إرَادَةِ مَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَتَعَيُّنِ إرَادَتَهُ؛ إذْ الْمَعْنَى إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ.

كَمَا لَوْ قَالَ: " وَاَللَّهِ لَأُسَافِرَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَيْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ سَفَرِي، وَلَيْسَ مُرَادُهُ إنْ كَانَ لِلَّهِ صِفَةٌ هِيَ الْمَشِيئَةُ؛ فَاَلَّذِي قَدَّرْتُمُوهُ مِنْ الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ الْحَالِفِ وَالْمُطَلِّقِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ سَوَاءٌ هُوَ الْمَشِيئَةُ الْمُعَيَّنَةُ الْخَاصَّةُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>