للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَيَقُولُ لَهُ إنْسَانٌ إلَى جَانِبِهِ: قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ؟ فَقَالَ: أَرَاهُ قَدْ اسْتَثْنَى.

وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَصَلَهُ قَرِيبُهُ بِدَرَاهِمَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا آخُذُهَا، فَقَالَ قَرِيبُهُ: وَاَللَّهِ لَتَأْخُذَنَّهَا، فَلَمَّا سَمِعَهُ قَالَ: " وَاَللَّهِ لَتَأْخُذَنَّهَا " اسْتَثْنَى فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَيْسَ بَيْنَ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا آخُذُهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَلَامٌ إلَّا انْتِظَارَهُ مَا يَقُولُ قَرِيبُهُ، أَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ إنْ هُوَ أَخَذَهَا؟ فَقَالَ: لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَثْنَى.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَفْقَهُ وَأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ اشْتَرَطَ نِيَّتَهُ مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْيَمِينِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِعْلًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِكَايَةً عَنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " بَعْدَمَا حَلَفَ وَذِكْرُهُ ذَلِكَ كَانَ نَافِعًا لَهُ، وَمُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمُقْتَضَى الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ مَا ذُكِرَ مِنْ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَالِاتِّصَالِ الشَّدِيدِ لَزَالَتْ رُخْصَةُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَلَّ مَنْ انْتَفَعَ بِهَا إلَّا مَنْ قَدْ دَرَسَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجَعَلَهُ مِنْهُ عَلَى بَالٍ.

وَقَدْ ضَيَّقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ نَافِعًا إلَّا وَقَدْ أَرَادَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُتَمِّمَ الْيَمِينَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: شَرْطُ نَفْعِهِ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا، وَلَوْ لِآخِرِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَالِكٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ فِي مُوَطَّئِهِ، وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَتِهِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي الثُّنْيَا فِي الْيَمِينِ أَنَّهَا لِصَاحِبِهَا مَا لَمْ يَقْطَعْ كَلَامَهُ، وَمَا كَانَ نَسَقًا يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا قَبْلَ أَنْ يَسْكُتَ، فَإِذَا سَكَتَ وَقَطَعَ كَلَامَهُ فَلَا ثُنْيَا لَهُ، انْتَهَى.

وَلَمْ أَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَطُّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ مَعَ الشُّرُوعِ وَلَا قَبْلَ الْفَرَاغِ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الْأَتْبَاعِ.

فَصْلٌ:

[هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ النُّطْقُ بِهِ؟]

وَهَلْ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ يَنْفَعَ إذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ؟ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِي

فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ: لَوْ قَالَ: " نِسَائِي طَوَالِقُ "، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ " إلَّا فُلَانَةَ " صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَلَمْ تَطْلُقْ، وَلَوْ قَالَ ": نِسَائِي الْأَرْبَعُ طَوَالِقُ "، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ إلَّا فُلَانَةَ لَمْ يَنْفَعْهُ.

وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ نَصًّا فِي الْأَرْبَعِ، فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالنِّيَّةِ، بِخِلَافِ الثَّانِي، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ أَنْ يَصِحَّ تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْطِ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ تَقْيِيدُ مُطْلَقٍ؛ فَعَمَلُ النِّيَّةِ فِيهِ أَوْلَى مِنْ عَمَلِهَا فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>