الظاهر أنه أراد النوع الذي يستجلبه الطبع، فيتبعه النفس حتى يحققه فيوسوس به صدره نزوعا إلى العمل به، لا الذي يهجم عليه من غير اختيار منه، على ما تقتضيه رواية الرفع، هذا ما عليه كلام الشارحين.
وروى الشيخ محيي الدين النواوي عن الإمام المازني قال: مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبيه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه. ويحمل ما وقع من أمثال قوله عليه الصلاة والسلام:((إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوا عليه، فإن عمليها فاكتبوها سيئة واحدة)) الحديث، على أن ذلك في من لم يوطن نفسه على المعصية؛ وإنما مر ذلك بفكره من غير استقرار، ويسمى هذا هما، ويفرق بين الهم والعزم، هذا مذهب القاضي أبي بكر، وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الحديث.
وقال القاضي عياض: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر؛ للأحاديث الدالة على المؤخذة بأعمال القلوب؛ لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة، وليست السيئة التي هم بها؛ لكونها لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية فيكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة، كما في الحديث ((إنما تركها من جرائي)) فصار تركه لخوف الله تعالى، ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء حسنة. وأما الهم الذي لا يكتب: فهو الخواطر التي لا يوطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم. وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها بغير خوف الله تعالى، بل لخوف الناس، هل يكتب حسنة؟ قال: لا؛ لأنه إنما حمله على تركه الحياء، وهذا ضعيف لا وجه له، هذا آخر كلام القاضي، وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه.
وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر؛ ومن ذلك قوله تعالى:{إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} والآيات في هذا كثيرة، وقد تظاهرت نصوص الشرع، وإجماع العلماء على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها.
((شف)): وفي الحديث دليل على أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق، ولم يتلفظ له لا يقع الطلاق، وإليه ذهب الشافعي وجماعة. وقال الرهري: إذا عزم على ذلك وقع الثلاث وإن يم