بالنار، وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار. وكان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجتي، وإن غفل عنه ذهب به. وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً، ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرتها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل)). رواه مسلم.
٢٩٤٣ - وعن قتادة، قال: سمعت أنساً يقول: كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرساً من أبي طلحة يقال له: المندوب، فركب، فلما رجع قال:((ما رأينا من شيء. وإن وجدناه لبحراً)). متفق عليه.
ــ
قال العلماء: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم رأي الجنة والنار رؤية عين، كشف الله تعالي عنهما وأزال الحجب بينه وبينهما كما فرج له عن المسجد الأقصى، وأن تكون رؤية علم ووحي علي سبيل التفصيل، وتعريف لم يعرفه قبل ذلك فحصلت له من ذلك خشية لم تسبقها. والتأويل الأول أولي وأشبه بألفاظ الحديث؛ لما فيه من الأمور الدالة علي رؤية العين من تأخره؛ لئلا يصيبه لفحها وتقدمه لقطف العنقود. وصاحب المحجن هو عمرو بن لحي- بضم اللام وفتح الحاء وتشديد الياء.
وقوله:((يسرق الحاج)) أي متاع الحاج. وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان، وأن ثمارها أعيان كثمار الدنيا. وهو مذهب أهل السنة، وأن التأخر عن مواضع الهلاك والعذاب سنة، وأن العمل القليل لا يبطل الصلاة؛ وأن بعض الناس معذب في نفس جهنم اليوم، وفي تعذيب تلك المرأة بالنار بسبب ربط الهرة، دلالة علي أ، فعلها كان كبيرة؛ لأن ربطها وإصرارها عليه، حتى ماتت إصرار علي الصغيرة، والإصرار عليها يجعلها كبيرة. قوله:((ثم بدا لي)) ((نه)): البداء استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم.
أقول: لعل الاستصواب في أن لا يظهر لهم ثمرتها لئلا ينقلب الإيمان الغيبي إلي الشهودي، أو لو أراهم ثمار الجنة لزم أن يريهم لفح النار أيضاً. وحينئذ يغلب الخوف علي الرجاء فتبطل أمور معاشهم، ومن ثمة قال:((لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً)) والله أعلم.
الحديث السادس عن قتادة رضي الله عنه: قوله: ((المندوب)) ((نه))؛ أي المطلوب وهو من الندب: الرهن الذي يجعل في السباق. وقيل: سمي به لندب كان في جسمه وهو أثر الجرح. قوله:((وإن وجدناه لبحراً)) ((إن)) هي المخففة من الثقيلة، والضمير في ((وجدناه)) للفرس المستعار.